25-أبريل-2018

صورة أرشيفية: دبكة شعبية في ساحة المهد بمدينة بيت لحم - تصوير موسى الشاعر (Getty)

يرقص الصوفيون حتى الوصول إلى مرحلة يفقدون فيها الإحساس بما حولهم، ويشعرون بـ"اقتراب أرواحهم من الخالق"، وهم يُرجعون سبب التمايل في حالة الذكر والتقرب إلى الله؛ إلى أنها استجابة أجسادهم لحالة تُصِيب الروح. يستهجن كثيرون أسلوب المتصوفين هذا، لكنهم لا يعلمون أن الرقص بما في ذلك الدبكة، والغناء التراثي أيضًا، كانت أشكالاً للصلاة عند الحضارات القديمة، وما زالت آثارها تمتد فينا إلى اليوم.

يقول شامخ علاونة، أستاذ التاريخ في جامعة القدس المفتوحة: "تشبه الدحية الفلسطينية في حركاتها عبادة إله القمر قبل آلاف السنين في مدينة أريحا، وكانت تتم باصطفاف السكان على شكل الهلال، ثم يتقدمون إليه ليتقدم إليهم، فكانوا في اصطفافهم يتقدمون خطوة ويصفقون لتشجيعه على التقرب منهم، وإذا ابتعدوا يصفقون لتشجيعه أيضًا. ومن هنا جاءت الدبكة أو الدحية الفلسطينية، خطوة للأمام وخطوة للخلف، والتشجيع بالتصفيق".

"الدحية" تشبه في حركاتها عبادة إله القمر قبل آلاف السنين في مدينة أريحا

ويشير خزعل الماجدي في كتابه "المعتقدات الكنعانية" إلى أن الطقوس الدينية عند الكنعانيين كانت طقوسًا دورية، أي أنها كانت تتم بشكل دوري كل أسبوع أو كل شهر. ويورد في هذا الخصوص: "لا نعرف على وجه التأكيد إذا كان الكنعانيون يحتفلون في نهاية كل أسبوع أو كل شهر بالدورة القمرية أو الشمسية، لكننا نرجح أن الكنعانيين عرفوا عيد القمر الأسبوعي".

اقرأ/ي أيضًا: فيديو | كيف استعادت الدحية مكانتها؟

تتوافق هذه المعلومة مع ما ذكره علاونة لـ الترا فلسطين بأن عبادة القمر كانت بالاصطفاف على شكل هلال في بداية الشهر، ثم إكمال الحلقة في منتصف الشهر عندما يصبح القمر بدرًا، وهكذا تبدأ الدبكة الفلسطينية، بنصف دائرة ثم تكتمل، "وهي بالتالي كانت عبادة دورية أسبوعية للقمر عند الكنعانيين القدامى".

خلال بحثنا هذا عن أصل الدبكة، طرحنا العديد من التحليلات للدبكة الفلسطينية، كان منها أن أهالي بئر السبع جنوب فلسطين كانو في استسقائهم يقلدون صوت المطر بأرجلهم، وكانت هذه أولى البدايات للدبكة، لكن هذه المعلومات بشكل عام لا يمكن التأكد منها بشكل قاطع، وكل ما كتب حول هذا الموضوع هو استنتاجات فقط.

يقول المحاضر في جامعة النجاح الوطنية مازن الرسمي لـ الترا فلسطين، إن الدراسات حول التاريخ الفلسطيني ضعيفة، تحديدًا في تلك المراحل القديمة كالفترة الكنعانية، فهناك محاولات توراتية عبرية إلى تهميش هذه الفترات من حياة الفلسطينيين، وإبراز الطرف الآخر على أنه هو صاحب الحق في هذه الأرض، مقابل ضعف فلسطيني وعربي واضح في هذه الأبحاث يعود لأسباب كثيرة.

"جفرا وهي يا الربع، وطير الحب الشادي، يغني للسما الزرقا، فلسطين بلادي، ويقول القدس الحرة، تحرم ع الأعادي" هذا المقطع هو جزء من أغاني الجفرا الفلسطينية. هذه الجفرا تعني في اللغة "الماعز"، وتكثر الحكايات حولها، فهي تعني أو ترمز للفتاة الجميلة التي يُتغنى بها، لكن عبد الرحمن المزين أورد في كتابه "الفكر الأسطوري الكنعاني وأثره في التراث الفلسطيني المعاصر" أن الجفرا ترمز لـ"الإله عنات" الكنعانية، زوجة "الإله إيل".

الجفرا التي يتغنى بها الفلسطينيون ترمز لـ"الإله عنات" الكنعانية"، زوجة "الإله إيل"

فالـ"الإله عنات"، كما يقول المزين، تظهر في الرسومات على الأواني الفخارية التي وجدت في المعابد والمقابر الكنعانية في فلسطين، وقد رُمز لها بالماعز الجبلي. واللافت أيضًا أن لـ "عنات" اسم شعبي أورده المزين، وهو الدلعونه، وهذا يعني أن المدن الفلسطينية ومعابدها القديمة وأساطيرها تعيش فينا عبر رقصات الدبكة، والدحية، وأغاني الدلعونه وظريف الطول.

اقرأ/ي أيضًا:  الفلسطيني الملثم بعد 10 آلاف سنة.. الحفيد يُشبه جده

الشاعر سعود الأسدي الذي وثق الزجل الفلسطيني والجليلي بالتحديد، يقول إن مصطلح الدحية "ليس لنا، بل هي إحدى انواع الفنون البدوية، وصف السحيجة لدينا يعرف بالحداء".

ويضيف لـ الترا فلسطين، "نحن لا يمكن أن نلغي بدايات الإنسان الحضرية، وعطشه للماء، فأذكر في صغري حين كنا نغني وقت الاستسقاء، ونقول: يا إله الغيث ياربي، تسقي زرعنا الغربي، وذلك بإنشاد جماعي معتمدين على أصوتنا الجبلية، ولا يمنع ذلك أن يكون فيه بعض الرقص، والحركات".

ويبين الأسدي لـ الترا فلسطين، أن الفلسطينيين كانوا يواجهون الظواهر الطبيعية بالغناء، "فخسوف القمر كنا نغني له أيضًا، ظنًا منا أن اختفاءه بسبب حوت قد بلعه. فكنا نقول: دشر قمرنا يا حوت، يا بنطلعلك بالنبوت". و"النبوت" هي العصا الطويلة.

ويستدرك، "ولم يبق من كل هذه العادات إلا الأغاني والرقصات التي نمارسها في الأفراح اليوم".

الفلسطينيون كانوا يواجهون الظواهر الطبيعية بالغناء، ومن ذلك خسوف القمر

حديث الشاعر الأسدي هذا يجعل فكرة الرقص أثناء العبادات ليست بالأمر المستبعد، فإذا كان الفلسطينييون يغنون لخسوف القمر قبل عشرات السنين، فما بالك بأجدادهم الذين عاشوا على هذه الأرض قبل قرونٍ بعيدة؟

لكن هذه الروايات المؤرخه لدى المزين والماجدي وغيرهما، تقابلها قصص عديدة يتناقلها الناس، فمصمم الرقصات والمدرب شرف دار زيد، يشير إلى صعوبة تحديد وقت معين لظهور الموروث الشعبي، ويسرد لـ الترا فلسطين بعض القصص المتداولة: "جاءت الدبكة من فكرة العونة بين القدماء، حين كانوا يتشابكون بالأيدي ليرتكزوا على بعضهم البعض، ثم بأرجلهم يدمجون مواد البناء في أوقات تشييد البيوت. أو قد تكون بدأت خلال مواسم عصر العنب، خاصة في مناطق لبنان".

لم يقتصر هذا التشابه على الحضارة الكنعانية وما تبعها، فالماجدي أورد في مقالٍ له بعنوان "دراما استنزال المطر"، أن أحد أشكال استنزال المطر هو الرقص الديني. ففي سامراء في العراق، اكتُشِفت آثار تعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد، تدل على ظهور طقس استنزال المطر (الاستسقاء)، ولعل أهمها الطبق الخزفي الذي تظهر عليه أربع نساء متقابلات تتطاير شعورهن من اليسار إلى اليمين (باتجاه عقارب الساعة) وهنّ في مظهر عارٍ يؤدين رقصة واضحة أساسها نثر الشعور باتجاه الشرق.

 طقس الاستسقاء هذا لم يبق على حاله في العصور اللاحقة، فبعد أن أصبح الري في جنوب العراق عماد الزراعة، أصبح هذا الرقص ممارسة فنية تقليدية فقدت جذورها السحرية والدينية، ولكن بقيت تمارسها النساء في الريف العراقي وفي البلدان الخليجية بشكل عام.

وهذا يعني أن الرقص مرتبط في مختلف العبادات، وليس عبادة القمر والشمس فقط، وأن رقص النساء في دول الخليج العربي، مع التلويح بشعورهن لليمين واليسار؛ ما هو إلا صلاة استسقاء كان يؤديها أهالي سامراء القدماء.


اقرأ/ي أيضًا:

العرس الفلسطيني: ماذا عن كسوة العروس؟

الزواج المسيحي: سر الكنيسة وإكليل الانتصار

ليالي الساهرين على "عتبة البلاد".. صور وفيديو