28-أكتوبر-2022
gettyimages

gettyimages

تحافظ جرائم القتل في المجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر على أرقام ثابتة في السنوات الأخيرة، وتكثر محاولات فهم انتشار ظاهرة العنف والجريمة في المجتمع الفلسطيني، الذي يخضع لسلطات استعمارية ونشأت فيه عصابات جريمة منظمة تنفذ عملياتها الإجرامية بشكلٍ دوري ومنتظم ومركزي. من بينها المحاولات التي تسعى إلى فهم هذه الظاهرة، مقال نشره موقع سيخا ميوكوميت العبري، بعنوان "الجريمة المنظمة في المجتمع العربي ورأسمالية المافيا الإسرائيلية"، أعدته أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة حيفا إيلات معوز، والمختصة في دراسة الاقتصاد السياسي للجريمة والعنف المنظم، واستعرضت فيه الأطروحات الرائجة في "إسرائيل" لتفسير هذه الظاهرة، وخلصت فيه إلى أنه الجريمة المنظمة في المجتمع الفلسطيني هي نتاج لسياسة تجمع عليها المعسكرات الصهيونية المتنافسة على تشكيل الحكومة في "إسرائيل"، مبرزةً الفائدة التي تجنيها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من تفشي الجريمة في المجتمع الفلسطينية، معتبرةً عالم الإجرام، بيئةً خصبةً لتجنيد العملاء وجمع المعلومات الاستخبارية.

الجريمة المنظمة في المجتمع الفلسطيني هي نتاج لسياسة تجمع عليها المعسكرات الصهيونية المتنافسة على تشكيل الحكومة في "إسرائيل"

تنطلق معوز في طرحها بالقول: "من أجل تفسير نمو الجريمة المنظمة في المجتمع العربي داخل الخط الأخضر، يحتاج المرء إلى فهم العلاقة بين الاضطهاد السياسي والتنمية الاقتصادية وفقًا للنموذج النيوليبرالي. أما الرد الملائم الوحيد لمواجهة المنظمات الإجرامية هو بناء قوة سياسية تربط النضال من أجل التحرر الوطني بالنضال ضد الرأسمالية الإسرائيلية".

وتبني الكاتبة تشابكًا بين الجريمة المنظمة وعوامل أخرى مثل ارتفاع نسب مقاطعة انتخابات الكنيست، كما يتضح من الاستطلاعات خلال الانتخابات المقبلة، قائلةً: "إن الانخفاض المتوقع في معدل تصويت المواطنين العرب الفلسطينيين هو نتاج أزمة ثقة حادة، ليس فقط في اسرائيل ومؤسساتها، ولكن أيضًا في القيادة السياسية الداخلية. ومن الأسباب العديدة لهذه الأزمة الشعور باليأس والعجز في مواجهة المنظمات الإجرامية والزيادة المخيفة في معدلات العنف والقتل. الرعب الذي يقضي على الحياة اليومية مروع وعامل يقود إلى اليأس ويشير إلى تفكك اجتماعي عميق يجعل الناس منغلقين، ويولد الغضب تجاه قياداتهم الضعيفة التي لا تقترح -ربما لأنها لا تملك -أي حلول للأزمة".

تستعرض الباحثة المقاربات الرائجة في "إسرائيل" لظاهرة الجريمة في "المجتمع العربي في إسرائيل" كمقدمة لاقتراح حلول فتقول: "الحل، بطبيعة الحال، مشتق من الطريقة التي ندرك بها المشكلة وجذورها. اليوم، تهيمن عدة أطروحات مركزية في إسرائيل، تشرح ظاهرة الجريمة المنظمة في المجتمع العربي وهي متنافسة ومتكاملة حسب السياق والمتحدث: الأولى، الأطروحة الثقافية، وهي التعبير الذي تتجلى فيه العنصرية المؤسسية. حسب هذا التصور العرب عنيفون بطبيعتهم والأفضل أن يقتلوا بعضهم البعض. وهذا الموقف منتشر لدى أجزاء كبيرة من الجمهور اليهودي، وهو يشير بشكل أساسي إلى التدهور الأخلاقي الذي يسببه الاحتلال للإسرائيليين. بالتأكيد هذا الطرح ليس تفسيرا لتفشي الجريمة، لأن ظاهرة العنف جديدة جدًا وهي نتيجة للتحولات التي حدثت في المجتمع في العقدين أو الثلاثة عقود الماضية وليس أكثر".

أمّا التصور الثاني الذي تراجعه معوز، "التصور الآخر، هو الاقتصادي، والذي يقول إن الجريمة هي شكل من أشكال الأعمال التجارية. وبعبارة أخرى، هذه الجريمة المنظمة هي نتاج "فشل السوق" – أي أنها تعبر عن فجوة في المعروض من رأس المال والسلع والخدمات. وهذا التصور، الذي وجه إلى حدٍ ما أنشطة وزارة الأمن الداخلي في الفترة الأخيرة، يقوم على مفهوم اكتسب زخمًا في صفوف أجهزة إنفاذ القانون في اسرائيل و حول العالم ويسمى تعقب حركة الأموال. ويقوم على محاولة تجفيف مصادر تمويل المنظمات الإجرامية، كمهمة تكتيكية ومستمرة، ويشير هذا التصور في النهاية، إلى أن حل الجريمة سيأتي من إزالة الحواجز والخصخصة الكاملة. وهذا يعني، كما هو الحال في أي مجال آخر، أن الحل المتخيل هو أن يربح الجميع المال. فيما يتجاهل هذا التصور وبشكلٍ كامل الأساس المتأصل لعدم المساواة الاجتماعية ويُنكر الأهمية الاقتصادية للسلطة لتحديد ما هو قانوني وما هو غير قانوني".

getty

ثم تتطرق الباحثة إلى التصور الذي طرحته النخب الفلسطينية داخل الخط الأخضر حول ظاهرة الجريمة المنظمة في مجتمعهم: "الصور الآخر واسع الانتشار، وخاصةً بين الجمهور العربي الفلسطيني، ويؤكد بشدة على أن مصدر الجريمة هو القمع القومي. دولة إسرائيل، التي قامت منذ يوم تأسيسها بقمع وإضعاف واستغلال واضطهاد الفلسطينيين داخل حدودها، خلقت تربة خصبة للجريمة التي تخدم أغراضها. من وجهة النظر هذه، يجب فهم الادعاء المعروف بأن المنظمات الإجرامية متعاونون، ليس فقط باعتبارها ادعاءً توصيفيًا لهوية المجرمين، ولكن أيضًا كادعاء مبدئي حول الدور السياسي القمعي للجريمة كاستمرار للاحتلال بوسائل أخرى. وثمة جزء من الحقيقة في هذا النهج التفسيري، لكن أيضًا يشوبه بعض القصور، لأن نمو المنظمات الإجرامية هو تعبير عن حركة أكثر تعقيدًا: ليس ذلك ناجماً فقط عن الإقصاء والسيطرة السياسية، ولكن أيضًا التكامل والحراك الاقتصادي -انتقال الأشخاص بين طبقات مجتمع-، وهو ما ينعكس في نمو الطبقة الوسطى العربية والتوسع الكبير في نطاقها".

getty

وترى الباحثة أن بيئة الجريمة التي أنتجتها السياسات الاقتصادية التي طبقت على الفلسطينيين داخل الخط الأخضر مفيدة من الناحية الاستخبارية للأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بقولها: "عملت أنماط التنمية الاقتصادية على تكثيف الفوارق الاجتماعية، لا سيما على خلفية عدم المساواة الهيكلية والمؤسسية بين اليهود والعرب. على سبيل المثال، أدت الزيادة الهائلة في القيمة الاقتصادية للأراضي المتضائلة في الأحياء العربية في المثلث والجليل إلى ظهور طبقة جديدة من الأثرياء، وهذه الفئة ليس لديها شرطة لحماية ممتلكاتها من المنافسين". مستكملةً شرحها "هذا هو المكان الذي تنمو فيه المنظمات الإجرامية، فتظهر شركات الأمن الخاصة والبلطجية المأجورين، الذين يديرون أيضًا شركات الحماية الخاصة وشركات الإقراض. بالإضافة إلى تأسيس شبكات تجارية واسعة النطاق بعلم وتجاهل المنظومة الأمنية والاستخبارية في العقود الأخيرة تستفيد من اقتصاد الاحتلال في الأراضي المحتلة واستغلال البشر خصوصاً العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية الذين لا يملكون تصاريح عمل، وهذه أرض خصبة لنقل المعلومات الاستخباراتية وتجنيد العملاء، وبهذه الطرق، وبطرق أخرى كثيرة، تكونت المنظمات الإجرامية في المجتمع العربي وأصبحت جزءًا من رأسمالية المافيا الإسرائيلية. فيما استندت هذه الرأسمالية منذ البداية على توزيع الامتيازات على القطاعات والعائلات والقبائل على أساس عرقي".

يجب فهم نمو المنظمات الإجرامية في المجتمع العربي في إسرائيل على أنه نتاج المشروع السياسي المهيمن

وتصل الباحثة معوز إلى خلاصة مفادها أن الجريمة في صفوف الفلسطينيين داخل الخط الأخضر ثمرة لسياسات مُجمع عليها لدى المعسكرات السياسية التي تتنافس على الوصول إلى الحكم والسلطة في تل أبيب بالقول: "يجب فهم نمو المنظمات الإجرامية في المجتمع العربي في إسرائيل على أنه نتاج المشروع السياسي المهيمن. ورغم الانقسام بين معسكر بنيامين نتنياهو والمعسكر المعادي له، لكن القاسم المشترك بينهما يقوم على السعي إلى ضمان استمرار اقتصاد الاحتلال في الضفة الغربية وهذا لزيادة ثروة تل أبيب جنة تُجار السلاح. هذا المشروع يهدف إلى تحويل العرب الفلسطينيين في إسرائيل إلى شركاء صامتين في إدارة الاحتلال مقابل حراك اجتماعي واقتصادي. الجريمة المنظمة ليست ظاهرة عربية، بل هي ظاهرة اقتصادية سياسية واسعة، وحلها سياسي".