17-ديسمبر-2022
حقائب لمسافرين على معبر رفح البري باتجاه مصر -  (SAID KHATIB/ Getty)

حقائب لمسافرين على معبر رفح البري باتجاه مصر - (SAID KHATIB/ Getty)

صالة أبو يوسف النجّار، أولى محطات التوتّر لدى مئات المسافرين اليوميين من قطاع غزة عبر معبر رفح إلى وجُهتهم، تتكدّس ساحة الصالة بأرتالٍ من الحقائب المُتخمة والتي يستحيل إحصاؤها ولا حتى تتناسب طرديًا مع عدد المسافرين.

أكياس زعتر، زجاجات شطة حرّيفة، ثوم، كنافة، جزر أحمر مُعدٌّ للحشو، قدور خبزٍ كهربائية، قهوة، بصل، زيت زيتون، أعشاب، برقوق مجفف.. كلٌ يأخذ موقعه في جيوب الحقائب

هذا المشهد الصباحي المتكرّر يُصيب المسافرين الاعتياديين (500 مسافر يوميًا تقريبًا- وفق إحصائية رسمية) بالذهول ما إن يبدؤون في تحميل أمتعتهم على أسقف سيارات المرسيدس بحمولة 7 ركّاب، والمصطفة على مسافة 200 متر من صالة السفر، فيما تهبط عجلاتها وتلامس جسد المركبة جراء الوزن الهائل لهذه الحقائب التي ترتفع أحيانًا لأكثر من مترين.

وبخلاف شكل المسافر التقليدي عبر أي مطار دولي؛ فإن جرّ حقيبةٍ بعجلات مع حقيبة ظهر لا يُمكن أن ينطبق على مثيله القادم من غزة؛ فسحب 5-7 حقائب بمعاونة الأصدقاء أو عُمال المطار على عربتي نقل، يؤكد حتمًا أن ذاك المسافر المُثقل قادمٌ من القطاع.

 Ali Jadallah/Getty
 Ali Jadallah/Getty

وبحسبةٍ سريعة؛ فإن حمولة 35 حقيبةٍ تقريبًا على ظهر المرسيدس-عدا عن المكدّس في حقيبتها الخلفية- يعني أن لكلّ مسافر 7 حقائب، ما يُثير تساؤلاً عن محتواها في أنهم مسافرون إلى صحاري قاحلة أو جزُرٍ غير مأهولة لا زاد فيها، على الرغم من أحدهم بالكاد يقضي عادةً شهرًا أو اثنين على الأكثر خارج البلاد.

وبحلول ساعات ما بعد الظهر، يفِدُ هؤلاء إلى صالة السفر في الجانب المصري، فيما يرمق موظفو الجمارك المصريين بنظراتهم تقاطر المسافرين الذين يجرّون نحو ثلاثة آلاف حقيبة ستستعد للفحص الإلكتروني ثم نظيره اليدوي الروتيني.

الفوضى العارمة والتسابق لتسليم كل شخصٍ حقائبه لموظفي الجمارك المصرية لبدء التفتيش اليدوي يمرّ في غاية البطؤ في مشهد سريالي، فيما لا تتوقف ألسنة هؤلاء الموظفين استنكارًا عن كم ومحتوى هذه الحقائب بسحّاباتها الممزّقة، متسائلين بحنقِ شديد: "ليه كلّ ده؟"، "إنت واخد الحاجات دي ليه؟" "هو مفيش قهوة في مصر؟".. إلخ.

وإذا ما سنحت الفرصة لمسافرٍ بـ"التطفّل" لرؤية ما تحمله هذه الحقائب، فسيُصاب حتمًا بالذهول. فصوص ثوم، أكياس زعتر، زجاجات شطة حرّيفة، كنافة، جزر أحمر مُعدٌّ للحشو، قدور خبزٍ كهربائية، قهوة، بصل، زيت زيتون، أعشاب المرمرية، برقوق مجفف، كسكسي.. كلٌ يأخذ موقعه في جيوب الحقائب.

حقائب السفر عبر معبر رفح

ويدرك المسافر الغزيّ جيدًا طريقة التفتيش المستفزّة؛ ليس فقط في صالة الوصول المصرية فحسب؛ فهو مُجبر على التوقّف مجددًا -مرتين على الأقل- على حاجزين عسكريين آخرين للجيش المصري في صحراء سيناء، قبل أن يصل مطار القاهرة إذا ما أراد السفر خارج الجمهورية.

ومع تعرّض تلك الحقائب التي فقدت عجلاتها جراء السحب والدفع؛ فإن ما تحمله من أطنان جعلها لا تحتفظ بهندامها؛ فهي إما قد تعرّضت لتلفٍ أو شقوق غائرة أو حتى فقدان لبعض محتواها أو تسرّب الزيت أو ماء الشطة الحريفة؛ إلا أن ذلك لا يمنع هؤلاء المسافرين وأقاربهم من تكرار التجربة في أي سفريةٍ قريبة مستقبلاً. لكن ما الذي يُجبرهم على حمل وتحمّل كل تلك المشقة؟ ولمِ لا يكتفون بحقيبةٍ أو اثنتين كما المسافر التقليدي؟

حقائب

مراسل "الترا فلسطين" التقى مؤخرًا عددًا من المسافرين الفلسطينيين على حاجز "المِعدّيّة" الواصل بين ضِفّتي قناة السويس، وأجرى مقابلاتٍ مع بعضهم.

ميساء الشاعر (61 عامًا) والمتجهة إلى أحد أحياء القاهرة لأول مرة، تُبرّر حمل وجرّ 6 حقائب بمعاونة سائق حافلة النقل الصغيرة ونخوة الشبان المسافرين على نقاط التفتيش، أنها لا تقتنع مطلقًا بأيّ طعامٍ غير ما تُنتجه يديها. "زجاجة الفلفل الحرّيف أساسيّ على المائدة، فنكهته الحارّة لا تُقارن بأي فلفل آخر مهما تشابه مع فلفل آخر في مصر أو غيرها". كما تعتقد.

وتقول الشاعر ضاحكةً إن حقائبها بالكاد تحتوي على ثياب؛ فيما يُعاونها الجنود في إرجاع حاجياتها إلى الحقيبة التي يفوح منها عبق مطبخٍ شرقيّ بامتياز.

أما عن زجاجتي زيت الزيتون التي تحتضنه بين يديها طوال الطريق (350 كيلومترًا من غزة إلى القاهرة) - فتقول إنه زيتون بِكر من أرضها ولن تُقدم على تذوق أي زيتٍ مماثل حتى لو سافرت إلى نصف الكرة الأرضية، مضيفةً: "بدكياني أشتري زيت ودارنا فيها شجر زيتون؟".

المسافر سامي أبو عكر (20 عامًا) والذي يستعد للالتحاق بإحدى الجامعات في تركيا، بدا خجلاً عندما سألته "ألترا فلسطين" عن سرّ حمله لقدرٍ كهربائي للخبز. فقد أجاب مُنشدًا للموسيقار اللبناني مارسيل خليفة: "أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي.." هذه أول مرّة أسافر خارج غزة، كما أنني لستُ من هواة التجارب، وسأكتفي بما تعرفه معدتي جيدًا".

ويؤكد أبو عكر أنه سيستخدم قدره الكهربائي هذا في سكنه المشترك في إسطنبول، قائلاً: "لن أشعر بالحرج أمام الطلاب الآخرين، كما أن تعلقي بخبز أمي سيُشعرني بالفخر، على الرغم من مشاقّ حملها وزهد ثمن الخبز في أي مكانٍ في العالم".

مراسل "ألترا فلسطين" التقى مؤخرًا عددًا من المسافرين الفلسطينيين على حاجز "المِعدّيّة" الواصل بين ضِفّتي قناة السويس، وأجرى مقابلاتٍ مع بعضهم

أما زاهدة الشاعر (62 عامًا) فتقول فخورةً إن لها 7 حقائب على ظهر حافلة "التويوتا" الصغيرة التي تنتظر دورها للمرور على العبّارة المائية لقناة السويس. فيما بدت بعض الحقائب رطبةً من تسرّب محتواها من زيت وعصائر الخرّوب والتمر الهندي المركّزة. وعن مشاقّ حملها لنجلها عبد الحفيظ الذي يدرس في الإسكندرية فترى أن محتواها من عبوات زيتون مضغوط في زجاجات مياه معدنية وزعتر برّي وكسكسي يشكّل هدايا لا تُقدّر بثمن له.

وتضيف متلهفةً للوصول لنجلها في مدينة السادس من أكتوبر غرب القاهرة: "قد أبدو مُنتَقدةً في عيون المسافرين وعساكر الجيش المصري الذين يتهامسون متثاقلين من مأمورية التفتيش، لكن (وجع ساعة) سينتهي بمجرد أن أفاجئه بمحتوى الحقائب".

رؤوف أبو دراز (32 عامًا) الدائم السفر كما يصف نفسه، قال إنه يحمل هذه المرة لأصدقائه في دبي، مبالغًا في الوصف: "أطنانًا من الجبن البلدي المجفف على الطراز النابلسي، وأطنانًا من الكنافة المحشوة بالجوز، وأطنانًا من مشروب الخرّوب، على الرغم من أنه ليس واثقًا هذه المرة من مرور المنتج الأخير عبر الطائرة كونه سائلاً". ويقول لـ"الترا فلسطين" على حاجز عبّارة القناة المائية: "يتلهّف أصدقائي لأي شيء قادم من غزة التي تعيش وضعًا استثنائيًا ومغايرًا ومعاكسًا لما هو الوضع العام في بقية دول العالم.. غزة متمردة وأليفة وقاسية وحنونة، تجمع كل التناقضات، لذا يعشقها من يُغادرها".