لا يكاد ينتهي موسم قطاف الزيتون؛ حتى يبدأ الفلاحون بالاستعداد لموسمهم الزراعي الثاني، فيشحذوا الهمة ويُجهزوا أدواتهم الزراعية ومحاريثهم وما يلزم لفلاحة الأرض، فـ"كل شيء بالأمل إلا الرزق بالعمل"، كما يقولون.
ويمتد هذا الموسم ما بين "عيد لد" الذي يوافق 16/تشرين الثاني، وهو عيد الخضر عليه السلام في مدينة اللّد، حتى "عيد بربارة" الذي يوافق 17/كانون الأول. وقيل إن بربارة قديسةٌ مصريةٌ قُتلت في غابر الأزمان، أو نجمٌ يخرج في السماء ويكون هذا وقته.
يستبشر الفلاحون خيرًا في الأيام الواقعة بين "عيد لد" و"عيد بربارة" في فصل الخريف، ويخصونها بترتيبات محددة للزراعة
ويحتفل الفلاحون بـ"عيد بربارة" بصنع طعام من القمح المسلوق والسكر والجوز واللوز والزبيب. وهذا الموسم هو موسم زراعة القمح والشعير والفول وبعض الحبوب.
اقرأ/ي أيضا: رحلة شتوية في تراث فلسطين
ويبدأ الموسم بعد "مطرة العفير" أو "مطرة الوسم البدري"؛ التي تسبق، عادة، "عيد لد" خلال 15 يومًا. وسُميت بـ"مطرة العفير" لأن الفلاح يعفر القمح والشعير بالأرض عفرًا، و"الوسم البدري" (الوشم) لأنها توسم الأرض وتكون علامة فارقة لبدء الزراعة. ويُقال أوسمت الدنيا إذا أمطرت، وهي مطرٌ مُبكر (بدري) قبل الشتاء.
وهناك أيضًا مطرة "الوسم الوخري" التي تكون خلال 15 يومًا بعد "عيد لد". والمثل الشعبي يصف ذلك (في عيد لد إللي ما شد يشد، يا قبله بـ15 يا بعده بـ15 يا الوسم فيه). ولأهمية هذه "الشتوة" فإن الفلاحين ينتظرونها بفارغ الصبر لبدء عفر القمح والشعير وزراعة الفول. وتأخر الوسم البدري أمر يَضِجُّ له الفلاحون ويخرجون للاستسقاء طلبًا للمطر.
يا رب بـَلـه بَـلـه .. واحنا تحـتـك بالـقـلة
يا رب بل المنديل.. قبل نرحـل قبـل نشـيل
يا رب بل الشرموح .. واحنا فقرا وين نروح
يا رب بل الـشـالة .. واحـنا فقـرية وشــيالة
وفترة الوسم هي فترة مصيرية في حياة الفلاح وعليها التعويل في موسم الزراعة، ويقول المثل الشعبي (وسومها من خشومها)، ويُقصد هنا أن السنة الجديدة تُعرف من بداية وَسمها. ولذا يَحْشُدُ الفلاح كل إمكانياته المالية وربما يستدين لأجل توفير البذار والحبوب وتجهيز الفدّان الذي سيحرث عليه. ولذا يقولون عن هذه الشتوة "وسم المال"، فيخسر الفلاح ماله ويضيعه إذا لم يَستغل هذه المطرة في الزراعة، "واللي ما بيزرع بالأجرد (تشرين الثاني) عند البيدر بيحرد".
وتسمى أمطار هذه الفترة أيضًا بـ"وسم الحرامي"، أو "وسم الضيف"، ذلك أنها تأتي على عجل وكذا تُغادر، ولا تستمر لأكثر من ثلاثة أيام وثلث، وهي مدة إقامة الضيف المعلومة عند العرب، وهذه الأمطار ليس لها وقت محدد فهي تأتي كالضيف على حين غفلة وتغادر بخفة وسرعة كأنها لص.
والفلاحون يستبشرون خيرًا في هذه الأيام، لدرجة أنهم يأملون بالتخلص من احتكار التجار الذين يشترون القمح والشعير منهم على البيدر بالرُّخص، ويبيعونه لهم في الموسم بسعر مُرتفع. يقولون: "أجا المطر يا طالبين الغلا وشعيركم اللي خبيتوه توكلوه في العزا".
ويحذر الفلاحون في هذه الفترة من السفر وكثرة التنقل خشيةً من فوات المواسم؛ وتجنبًا للبرد الذي يصاحب "الوسم البدري". يقولون: "أول الوسوم لا تحوم"، "برد تشرين ببكى المصارين"، "المطر البدري طريح"، وقد يتلف هذا البرد لشدته بعض الخضروات ويكون سببًا لنزلات البرد (الإنفلونزا).
فبمجرد نزول "شتوة الوسم البدري" يُسارع الفلاح للبذر بلا تردد، "ارمي الحب وتوكّل ع الرب"، "إنْ هدَر الرعد ابذُر واندم، ولا بكرا يفوتك الموسم وتندم"، "إن أوسمت على عيد لد احرث وقد". وحين يبذرون يبتهلون إلى الله بالبركة، "يا رب تطعمنا وترزق الطير وتعطي الضعيف والمسكين".
وعيد لد هو إعلان بدء الزراعة والاستعجال فيها، فلا وقت للانتظار؛ لأن الشتاء سيكون قريبًا. ويُقال في الأثر: "في عيد لد ما بقي للشتا تعد"، "الفلحة البدرية ما بتلحق"، "كل بدري في المال فالح"، "الفلحة إن ما أغنت سترت"، "في عيد لد أحرث وشد"، "في عيد لد قد وجد".
وأهم ما يُزرع في هذا الموسم القمح والشعير، "يا عيد لد يا قمح المواليدي"، أو يُقال "يا شعير لد يا قمح المواليدي"، والشعير، بحسب الفلاحين، أصبر من القمح على تحمل الحر وقلة المطر. ولذا يُكثرون من زراعته في هذه الأيام، فالجو كما يقولون "يا صيف بجِد، يا مطر بِهد". والشعير لا يحتاج إلى مطر كثير، لأجل ذلك قالوا في المثل: "إن مات أبوك وانت صغير ازرع شعير".
ولأن الوقت يكاد ينفذ من يد الفلاحين فلا بُد من المُعاجلة في العونة لحراثة الأرض قبل أن يهل "عيد بربارة"، وعن عونه حراثة الأرض قالوا:
زرعت الزرع وقلت بوخير
جزاكم يا العونة كل خير
بينتوا العدو من الصحاب
ومن طريف أهازيجهم قولهم حين تهل النسوة على رؤوسهن غداء الحراثين:
طلعت عُونة الغُزلان من فوق طويلة
شامخة الذرعان لفوق
بالله يا المليحة تاخذيني ازرار للثوب
وتحطيني بين الرمش ولهداب
وإذا حل آخر يوم في حراثة الأرض، قدموا وجبةً يسمونها "بياض القفّه"، والقفّه وعاء من الجلد، يستخدمها الفلاحون. وبياض القفّه "خبز شراك مخبوز على الصاج مع زيت سمن بلدي وسكر".
يعتقد الفلاحون أنه بحلول "عيد بربارة" ينهمر المطر بغزارة ويأخذ الليل وقتًا من النهار، وينهون موسم زراعة الشعير
ثم ما إن يهل عيد بربارة في 17 كانون الأول/ ديسمبر، ينتهي موسم زراعة الشعير لاقتراب فصل الشتاء بما فيه من برد، "سكعة (برد) الكوانين مثل السكين". ويكون الوقت مناسبًا لاستكمال زراعة القمح، "إن طلعت بربارة حُطوا الشعير بجراره"، "إن طلعت بربارة القمح يا بذاره"، "يوم تظاوي (يضيء) البربارة (النجم) رد الشعير في غراره والقمح يا بذاره".
وفي عيد بربارة يكون المطر غزيرًا، بالعادة، ويروى في الأثر: "في عيد بربارة بتطلع المية من خزوق الفارة"، أي أن الماء يتدفق في هذا الموسم من الينابيع من كثرة المطر. ويختلف الوقت بعد عيد بربارة، حيث يأخذ النهار من الليل شيئًا قليلاً، كما يعتقدون، "في عيد البربارة بوخذ النهار من الليل أخباره".
وبانقضاء ساعات عيد بربارة يكون الفلاحون على وشك توديع الخريف وانقضاء هذا الفصل، لتقبل عليهم الشتوية ببردها وأمطارها وأيامها، وهنا يقولون الكثير، منه: "اللي بزرع بحصد"، و"اللي ما بحرث في الشتوية بشحد في الصيف".
اقرأ/ي أيضًا:
بالصور: رحلة إلى بيت لحم.. عجائب فلسطينية