19-مايو-2017

AWAD AWAD/AFP/Getty Images)

"الفيلسوف هو إنسان لم يستطع يومًا أن يتعوّد على العالم. والعالم يظلّ بالنسبة له شيئًا غير قابل للتفسير، شيئًا غريبًا، ملغزًا"، هذا ما يخبرنا به جوستاين غاردر، في روايته "عالم صوفي".

تغيب الاسئلة الكبرى من حياتنا كفلسطينيين، فنستريح ونستسلم لمشاكلنا اليوميّة، وتختفي دهشتنا أمام الأحداث القاسية

ويشبّه غاردر العالم بأرنب أبيض يخرج من قبعة الساحر، وحتى تندهش وتتساءل، عليك أن ترى المشهد كاملًا: الساحر، القبعة والجمهور، أي عليك أن تظل واقفًا على طرف الشعرات الدقيقة في فروة الأرنب.  والبشر كلهم، وفقًا لغاردر، يُخلقون على أطراف هذه الشعرات، لذلك يندهش الأطفال باستمرار ويسألون باستمرار، ولكن وللأسف مع الوقت فإن أغلبيّة البشر يغرقون أكثر وأكثر في عمق فروة الأرنب، وهناك يمكثون طويلًا لا مبالين بالعالم وأسئلته الكبرى، ويشعرون بالراحة بحيث لا يعودون أبدًا إلى امتلاك شجاعة تسلق الشعرة، مُنشغلين بتفاصيل أيامهم العادية.

اقرأ/ي أيضًا: رسائل صغيرة كبيرة!

سيارات الأجرة أفضل مكان تُثار فيه الأسئلة الكبرى بأبسط الكلمات، وبينما يمرر الركاب الأجرة لبعضهم ودون الكثير من المبالاة، قد يرمي أحدهم كلمة تظل عالقة معك أيامًا،  تجيب بها عن غضبك أمام نشرة الأخبار، أو تواسي بها مخاوفك من غد لا تعرف سيقتُل مَن مِن معارفك، في بلد يسهل فيها أن تتحول  إلى صورة ملصقة على جدارن الحدائق العامة وأسوار المدارس، صورة مرفقة بكلمات تصفك بأنّك عظيم جدًا لدرجة أنّك لن تكون موجودًا بيننا بعد اليوم.

علّق أحد الركاب مرةً على أزمة السير الخانقة في رام الله، بأن البلد ضاعت في اللحظة التي بدأت البنوك بمنح القروض الميسّرة لشراء السيارات والشقق السكنية. قال: "انظروا إلى كلّ هذه السيارات الحديثة التي تملأ الشوارع، أتعلمون ما هو ثمنها؟ ثمنها القضية، ثمنها أن ننشغل وننسى"، أضافت اللهجة العامية التي تساءل بها الرجل أسئلته، جديّة مخيفة على كل كلمة قالها، فما تستمع له ليس مداخلة محلل سياسي في نشرة أخبار، وليس صفحات من كتاب، بل إنه سؤال من رجل يحمل كيسًا من الخبز الساخن لعائلته، بينما يجلس في سيارة أجرة ويتذمّر من أزمة السير.

كأن الرجل يخبرنا أنه ومع كل قرض جديد فإننا نغرق في فروة الأرنب أكثر لتغيب الاسئلة الكبرى من حياتنا كفلسطينيين، فنستريح ونستسلم لمشاكلنا اليوميّة وتختفي دهشتنا أمام الأحداث القاسية التي يدفع ثمنها أولئك الذين ظلوا واقفين على رأس الشعرة، هناك في الأعلى، يراقبون عن كثب كل ما يحصل ويعبّرون عن دهشتهم ورفضهم بالمقاومة.

وإذا كان الفلاسفة والأطفال هم من يقفون على الأغلب على رؤوس شعرات الأرنب وفقًا لغاردر، فإن المقاومة أيضًا فعل فلسفي بوصفها موقف من العالم.

وعن هذا كتب المفكر التونسي عبد العزيز العيادي عن فلسفة الفعل متحدثًا عن الإنسان الذي يدخل بفعله في العالم، ويشكّل فعله بُعدًا من أبعاد العالم، وحينها يلج الإنسان بفعله إلى جوهر العالم، والعمل على المشاركة في تخليصه من أشكال الزيف والهيمنة والإقصاء، لتحلّ محلّها قيم القدرة والاستطاعة.

ويضيف العيادي بأن فلسفة الفعل هي مقاومة وتضحية من أجل دحر النفوس المريضة التي تفكر في خلاصها الفردي، وتتمنى الفشل للقوى الفاعلة، وتتحدث عن النهايات وأنّ كل شيء محسوم، ونحن لم نسجّل بعد لحظة البداية.

بالتأكيد إنها مبالغة لا تخلو من القسوة أن نحكم على أناس بأنهم مشغولون بخلاصهم الفرديّ، بمجرّد أنهم أرادوا جعل حياتهم أسهل قليلًا، بامتلاك سيارة أو وضع سقف فوق رؤوسهم. ولكن الخطر الحقيقي ليس في هذه الأحلام البسيطة التي يحق لكل إنسان أن يعيشها ويعمل من أجلها، إنما عندما تصبح هذه الاحلام بديلًا عن أحلام أكبر تتعلق بشعب بأكمله، أو تصبح في تعارض معها بصفتها مهددة لها.

"لماذا كل أهالي الأسرى من الطبقة البسيطة الكادحة؟ أين أبناء الطبقة المخملية من كل هذا؟ هل بيوتهم خالية من الأسرى؟ ولماذا لا يتضامنون معنا؟"

ورغم أنه يصعب التحدث عن "أحلام شعب بأكمله" دون التعبير عن ذلك بمصطلحات ومفاهيم يختلف الأفراد في تعريفهم لها. فإن الكثيرين يختارون تبسيط فكرة تعارض أحلام الفرد مع أحلام المجموعة فلسطينيًا من خلال خشيتهم من أن تتحول أحلام الفرد إلى مجموعة التزامات مالية يغرق فيها الكثير من الفلسطينيين، بحيث يصبحون ضد أي شكل من أشكال الثورة طلبًا للهدوء الذي يحمي أحلامهم ومشاريعهم، فيتحولون إلى الجماعة التي وصفها العيادي عندما قال: "فالذين تُعمي أبصارهم رياح الصحراء، وتقضّ مضاجعهم الأصوات الآتية من بيوت الصفيح أو من الخرائب المنسية في الأعماق أو على الحدود، هؤلاء هم الذين يخافون الثورة والميتافيزيقا".

اقرأ/ي أيضًا: "اثنين الأمهات"

تساءلت صديقة عبر صفحتها على الفيسبوك: "لماذا كل أهالي الأسرى من الطبقة البسيطة الكادحة؟ أين أبناء الطبقة المخملية من كل هذا؟ هل بيوتهم خالية من الأسرى؟ ولماذا لا يتضامنون معنا؟"، تساؤل صديقتي تزامن من تذكير الفيسبوك لي بصورة الأسير محمد الأبرش ورسالته لأمّه التي كنت قد شاركتها قبل سنوات. كتب محمد:

"لا تقل لأمي بأني صرت أعمى.. هي تراني وأنا لا أراها، ابتسم وأتحايل عليها على شبك الزيارة عندما تريد أن تريني صور إخوتي وأصدقائي وجيران الحارة، فهي لا تعرف أني أصبحت كفيفًا بعد أن دب المرض في عينيّ حتى غزت العتمة كل جسدي".

لا أحد يستطيع أن يتأمل رسالة الأبرش دون أن يعتريه اليأس. أو دون أن يمتلأ ذهنه بالكثير من الأسئلة الناقمة حول من يدفع ثمن هذه القضية.. ومن الذي يقبضه؟


اقرأ/ي أيضًا:

إليكِ.. ثلاثُ رسائل مهزومة!

طحين الأسرى وابتساماتهم

هدده المحققون بزوجته و"قطعوا خلَفه".. ولم يرضخ!