لم تنم نهلة البرعي ليلها الطويل، وهي تنتظر صُبح جمعة العودة الأولى، لتكون من أوائل الوافدين لساحة الاعتصام قرب السياج الفاصل شرق جباليا، ولم تثنها توسلات ابنتها الكبرى على الهاتف بأن لا تذهب، "أمانة يما ملناش غيرك"، ولا إغراءات ابنتها الأخرى وهي تدعوها إلى الإفطار، وهما متزوجتان، فيما الأم منفصلة عنهما وبقية أبنائها منذ زمن.
[[{"fid":"71387","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"6":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":309,"width":550,"class":"media-element file-default","data-delta":"6"}}]]
نهلة (43 عامًا) كانت في أوج حماسها وهي تقترب من نقاط المواجهة. ما هو شعورك وأنتِ تتقدمين لنحو 20 مترًا من السياج الفاصل؟ "عندما رأيت الشباب يرجموا الحجارة ويهتفوا باسم القدس، صار دمي يغلي، فاقتربت منهم لكنهم حاولوا نهيي وتخويفي بأنّي قد أصاب فأجبتهم روحي فداء للقدس، والدنيا كلها لا تساوي عندي ركعتين في المسجد الأقصى".
"روحي فداء للقدس، والدنيا كلها لا تساوي عندي ركعتين في الأقصى" قالت نهلة وهي تتقدم للسياج الفاصل حتى أسقطتها رصاصة مجندة
وقفت نهلة على تلّة مرتفعة ليخترق هتافها الفضاء نحو الجنود المهزومين في عينيها، "كانت المجندة تقف قبالتي أنا أراها وهي تراني، وما أن مِلت لألتقط حجرًا حتى اخترقت رصاصتها قدمي اليسرى وخرجت من اليمين، وما هي إلا ثوان وفقدت الوعي". نُقلت نهلة إلى مستشفى العودة ثم الأندويسي لاستيفاء العلاج، وكلاهما في جباليا شمال القطاع.
اقرأ/ي أيضًا: حكاية محمد النجار.. "حتى لا يبرد في ثلاجة الموتى"
ختمنا اللقاء معها ونحن نلتقط صورة تذكارية لم تمنعها آلامها من الابتسام فيها للكاميرا، فيما اختطفنا إجابة لسؤال من أين أنتِ يا نهلة؟ فأجابت ضاحكة: "أنا من دمرة، وهي تلي معبر بيت حانون (ايرز) مباشرة، يعني سأكون أول العابرين". وأضافت، "كنت أدعي الله أن أبقى لآخر يوم ثم أصاب أو استشهد لا يهم، حقًا أتمنى العودة والمشاركة مع الشباب".
أما ذات العينين البُنّيتين، مريم فريد أبو مطر (16 عامًا)، فكانت من الحاضرين بقوة في يوم الأرض على حدود "الشوكة" شرق رفح، هي وأختها ابنة الـ 12عامًا، تتناول الأعلام منها وتأمرها بالابتعاد؛ خوفًا عليها، فيما هي تغرزها على مرأى جنود الاحتلال الذين تراهم للمرة الأولى عيانًا، وقد بدأت تنصب العلم واحدًا تلو الآخر فوق السياج الفاصل، حتى أصيبت في ساقها فهشمت الرصاصة العظم وقطعت الأوردة. حازت مريم إثر ذلك لقب "فتاة العلم".
[[{"fid":"71383","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":309,"width":550,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
مريم التي غدت ابنة شهيد وهي بعمر ثلاثة أعوام، لا تعرف من أبيها إلا وجهه النضر في الصور، وحكايات أمها المفعمة بالحُب والنضال عنه، لم تخرج للمسيرة إلا وأمها تُلبسها الكوفية وتشجعها على المُضي بثبات. ماذا عن اللحظات الأخيرة قبل الإصابة يا مريم؟ "رأيت الشباب يصابوا والنساء يفترشن الأرض إثر الغاز المسيل للدموع، فاحترقت روحي وأخذت أغرز الأعلام إلى أن مسكت العلم الخامس والتفت، حينها لم أنتبه للجندي الذي أشار للمجندة بإطلاق رصاصة صوبي".
"فتاة العلم" استُشهد والدها عندما كانت بعمر ثلاث سنوات، ألبستها أُمها الكوفية وهي تتوجه لنقطة المواجهات شرق رفح
يستهدف قناصة جيش الاحتلال أقدام المتظاهرين بشكل أساسي، وفق ما أكدت وزارة الصحة. تؤكد على ذلك أيضًا مروة صبح (29 عامًا)، وقد ساقها الشوق للذهاب إلى مخيم العودة في منطقة خزاعة شرق خانيونس. تقول: "مرّ أسبوع وأنا أشاهد من التلفاز، الجميع ذهب إلا أنا، في الجمعة الثانية قررت المشاركة، حضَّرْت الغداء لأبنائي أركان وأُسيد، وتجاهلت نهي زوجي لي عن المشاركة، وذهبت".
اقرأ/ي أيضًا: عندما قتل الاحتلال جهاد مقتلعًا عيون شقيقاته
أضافت، "أنا لا أهتم أبدًا لهذه الأمور، ولم أشارك من قبل بتاتًا في أيّ مظاهرات، لكني هذه المرة كانت مختلفة". وبالفعل، لم يكن حضور مروة عاديًا، فقد وصلت لأول صف مقابل الجنود؛ وأخذت تلملم الحجارة وتناولها للشبان، وتجمع الإطارات التي أُحضرت من قبل لحرقها، وتوزّع الماء على الفتية، وتكسر البصل لمن تخنقهم قنابل الغاز.
ما الذي حدث؟ "شاب أمامي كان تقدم أكثر منّا، فأطلقت رصاصة على رأسه، وأُطلقت قنابل الغاز في المكان فتراجع الشباب، رأيت الشاب وجسده ينتفض فهرولت نحوه لإسعافه، رآني فأصبح يلوح بيده إليّ، وعندما وصلته بعد أن قطعت مسافة 50 مترًا كان قد استشهد، وفي لمح البصر وجدت نفسي أسقط نحوه مصابة، في هذه اللحظة فقط أصبحت أنادي يا أولاي يا أولادي".
[[{"fid":"71385","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"4":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":309,"width":550,"class":"media-element file-default","data-delta":"4"}}]]
ولكن ألم تفكري بهم وأن تتقدمين تجاه الشاب لمنطقة الخطر؟ "مطلقًا، كل ذهني وتركيزي كان منصبًا على إنقاذه وهو يُعلّق نظراته عليّ، ضربوني بالرصاص الحي على ساقي اليمين فانفصل إلى نصفين، فمزق الشباب قمصانهم ليضمدوا الجرح ويوقفوا النزيف، حينها شعرت أني أصارع الموت، ولكني بفضل الله انتصرت عليه".
في مستشفى غزة الأوروبي بخانيونس أيضًا، رقدت على نحوٍ منها أم شهيدين في الحرب الأخيرة على القطاع، وهي مريم أبو عمران (57 عامًا). أُصيبت مريم عندما افتدت ابنتها برصاصة اخترقت رجلها اليمنى، فيما كانتا تتحدثان لإحدى الفضائيات قرب السياج الفاصل في خزاعة، تقول ابنتها شروق (19 عامًا): "كنت أقف بجانبها وفجأة ضربت كتفي بقوة فابتعدت، ونظرت حولي وجدت أمي على الأرض مصابة".
[[{"fid":"71386","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"5":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":309,"width":550,"class":"media-element file-default","data-delta":"5"}}]]
مريم أبو عمران أم شهيدين، أُصيبت وهي تحاول حماية ابنتها من رصاص قناص خلال مقابلة متلفزة
لا يُفرق جنود الاحتلال بين شابة أو مُسنة عند القنص، ورصاصهم الذي يُطلقونه لا يصيب الأجساد فقط، بل يترك آثار مجتمعية على الجريحات، إذ يواجهن لاحقًا صعوبات في الارتباط بسبب إصاباتهن. صابرين المصري التي أصابتها قناصة برصاصتين في اليد والفخذ، تقول: "كانت المجندة أمامي، رأيتها وقنصتني وما زالت تنظر إليّ لترى هزيمتي، لكن لم أخرج الآه ولم أُهزم".
حاولت أخت صابرين ثنيها عن المشاركة في مسيرة خان يونس، في أول أيام مسيرات العودة، ولإقناعها بالامتناع عن المشاركة قالت لها: "المستقبل أمامك، قد يخطبك غدًا أحد الشبان وترتدين الأبيض"، لكنها أوقفت "حديث أختها الفارغ"، على حد قولها، وعلّقت: "لقد تزوجت القضية".
[[{"fid":"71384","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":309,"width":550,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]
اقرأ/ي أيضًا:
ماذا قال فنان البحر لصديقه قبل أن يستشهد؟