هناك على بعد أمتارٍ من الأبراج العسكرية الإسرائيلية، مكان ظليل رطب، تُزينه الزهور البرية الصفراء، وسنابل القمح المتراقصة على وقِع النسائم الربيعية، مليء بخِيام بيضاء منصوبة بشكلٍ عشوائي، تكدست بكلماتٍ كُتبت بخطوط متعرجة "البلد بلدنا، راجعين يا حيفا، يا يافا، زحفًا زحفًا نحو القدس". وكلّما اقتربت من المكان أصبح صوت المذياع الصادح بالأغاني الوطنية الشعبية أكثر وضوحًا، كذلك المشهد.
الجدات يرتدين الأثواب الفلسطينية البرّاقة، تجلس حوّلهن النساء والفتيات في أجواء "فلاحية"، يطبخن الأكلات الفلسطينية القديمة، كالسماقية، والرومانية، والجريشة، على وِقع ترويدات شعبية يتشاركن ترديدها.
أكلات فلسطينية قديمة تطبخها في مخيمات العودة فلسطينيات شهدن النكبة، على وقع ترويدات شعبية يتشاركن ترديدها
أما الشباب، فمشغولون بمقارعة جنود الاحتلال، إذ لم يكن لأغلبهم فرصة سابقة بأن يِقفوا أمام عدوهم وجهًا لوجه، يرفعون علّم فلسطين بالتناوب "جكر" بالقناص الذي يرصدهم من مسافة قريبة خلف السياج الفاصل، ويحرقون الإطارات المطاطية لحجب الرؤية عن الجنود، وسط تكبيرات ونداءات تشجيعية للفاعلين، وإذا دنا وجه القمر مساءً تراهم يُشعلون النار في الكانون، ويتراقصون بأيدي متشابكة على الدحية الشعبية.
اقرأ/ي أيضًا: مسيرات العودة: مشاهد لا تُنسى.. صور وفيديو
أما خيمة المخاتير ووجهاء العشائر، فيُميزها عن باقي الخِيام أنها أكبر مساحة، كما أنها مفروشة بالبُسط القديمة الملونة، يجلس فيها الكِبار من رجال البلد يتسامرون مع الشباب، ولا تخلو جلساتهم من النِكات وحكايات الأجداد عن أيام البلاد، وعلى مدخلها لا يكاد ينطفئ موقد النار، ولا تبرد أباريق القهوة النحاسية.
مشاهد تسوق إلى أذهانك التغريبة الفلسطينية، لكن بهمّة العائد لا المُشرد، وبمسمى آخر "مسيرات العودة الكبرى"، وفي الحالتين "لا تسل عن سلامته، روحه فوق راحته".
الترا فلسطين تجوّل في مخيمات العودة التي يُقيمها الفلسطينيون في بلدة خزاعة شرق خانيونس، جنوب قطاع غزة، وشرق الشجاعية، للتعرف أكثر على الفعاليات التي تؤنس ليل المتظاهرين هناك.
مع الساعات الأولى للمساء، يبدأ المئات من أهل مدينة خانيونس بالتوافد إلى الحدود ليُشاركوا في الفعاليات الليلة، واللافت أن التطريز الفلسطيني القديم حاضر على لِباس النساء المشاركات، باختلاف أعمارهم، فمنهن من تلبس الثوب، ومنهن الشال المُطرز، والعباءات المزينة بنقوشٍ تراثية.
السيدة لطيفة النجار (78 عامًا) ترى أن الشعب الفلسطيني مُذ وُجد وهو يعاني النكبة تلو الأخرى. سألناها، حين تذهبين لخِيام العودة ماذا تتذكرين؟ تُجيب: "أشبه بأيام هجرتنا من بلدتنا سلمة، مع أنني كنت صغيرة لم أتجاوز الثماني سنوات، لكنني أذكر تفاصيل ذلك الحدث جيدًا، وكيف عشِنا ليالٍ طويلة في الخيام قبل أن نأتي إلى القرارة ونسكن فيها".
وتأتي لطيفة مع أقربائها إلى مخيم العودة في خزاعة؛ مرتدية ثوبها المزخرف بألوان مُبهجة، تجلس وسط الخِيام، فتتجمع حولها النسوة لتقصّ عليهم ذكريات أيام زمان، ذاك الزمن الذي تصفه بالجميل الممتلئ براحة البال، وحبّ الجار، والبركة وكثرة الرزق أكثر من يومنا هذا.
"زمان كان للأكل طعم ثاني، والسهرات لا تنتهي ونظل نروّد للصبح" تقول لطيفة التي بلغت 8 سنوات عند النكبة، وهي من روّاد مخيم العودة في خان يونس
بشغفٍ واصلت لطيفة الحديث عن "أكلات زمان"، وخبز الصاج الذي لازال مذاقه عالقًا في فمها، والماء البارد من جرّة الفخار الذي كان يروى حلقها. تقول: "زمان كان للأكل طعم ثاني، والسهرات لا تنتهي ونظّل نروّد للصبح". ثم أخذت تُردد ترويدات شعبية قديمة منها: "يا جرح الهوى يا جرح الطبيب، حمد مجروح يا بوي وجرحه غميق، وبطلب من ربي يشفي كل عليل، أنا بطلب من الله يردّ كل المهاجرين".
والأمثال الشعبية كانت حاضرة أيضًا، إذ تجلسّ مسنّة وحولها الصِغار تحكي لهم بعضًا من هذه الأمثال، وسط ضحكاتٍ تعلو لأن الجيل الصغير غالبًا لا يفهم لهجة الكِبار. "يا ماشي الدرب خذني قرش في كفك، وإن حاربوك الجماعة أنا صرت من صفك"، و"غريب في بلادك، لا أحكي ولا أتكلم، يا دمع عيني على حيطانكم علّم".
اقرأ/ي أيضًا: ماذا قال فنان البحر لصديقه قبل أن يستشهد؟
لكن ماذا لو التقت سيدتان من كِبار السن في جلسة سمرٍ واحدة؟ تقول أم أحمد (52 عامًا) بعد ضحكة: "أكثر ما يُبهجنا حين تتجادل الحجّات في تفاصيل صغيرة عن أيام البلاد، وتُصرّ كل منهما على روايتها، وتصف كل واحدة الأخرى بالخرف".
أم أحمد تأتي مع مجموعة من النسِاء مرتين يوميًا، صباحًا، ثم بعد صلاة العصر إلى العاشرة مساءً، تقول: "صراحةً أكثر ما شدّ انتباهنا، هو أننا نرى ذكريات آبائنا وأمهاتنا تُعاد أمامنا كواقع فلمِ لا نعيشه؟ ونستمتع باللحظات التي لطالما حدثونا عن جمالها وسعادتهم بها".
أخبرتنا أنها بعد يومين ستُصبح أم عريس ويُشرفها - كما قالت - أن تنطلق زفّة ابنها من خيِام العودة في أجواء شعبية تراثية، "فلا أجمل من مشهد الخيل وهي ترقص على ألحان اليرغول والنساء يزغردن له" حسب قولها.
وتضيف، "ما ميزّ خان يونس أن المشاركين من الطفل للشايب، والنساء متواجدات بشكلٍ فعّال، والذي ساعد على وجود فعاليات تراثية شعبية في خزاعة هو طبيعة البيئة التي يعيش فيها أهل المنطقة، إذ أفران الطين، وكوانين النار، الجمِال والخيل كلها مناظر معتادة هنا".
أفران الطين، وكوانين النار، والجمال والخيل، منحت خزاعة طابعًا مشابهًا لما عاشه المهجّرون قبل النكبة، فأقبلوا عليها بقوّة
وإلى جانب الفعاليات التراثية التي تُنفذنها النساء في المخيمات، هناك فعاليات للرجال أيضًا، ففي خيمة العشائر كان عدد من مخاتير البلد وشبابها يستمعون إلى الزجال أبو صالح أبو شقير (65 عامًا) وهو يُغني لهم عن الوطن: "هذي القدس دار العز واحنا رجالها،، لا تعد الخيل عد رجالها"، ويُنادي بأسمائهم واحدًا تلو الآخر، فيتحمس الحضور.
شاهد/ي أيضًا: فيديو | ساقي الثوار
"أبو صالح" واحد من المرابطين في خِيام بلدة خزاعة، يأتي من ساعات الصباح الأولى، ويبقى حتى الساعة الحادية عشر ليلًا. يقول: "نأتي يوميًا لنؤكد على أحقيتنا في هذه الأرض، وإلى حين العودة، سنعيش الحياة بألوانها ولو على الحدود".
أبو زياد أبو سعادة (78 عامًا) أحد الوجهاء، كان متكئًا فاستقام ليستقبلنا في الخيمة، ثم بدأ الحديث عن الفعاليات قائلاً إنها متنوعة بين ثقافية، وفنية، وتراثية شعبية، ودعوية. وأضاف، "يظّل وجهاء العشائر، والمخاتير وكبِار السن إلى الساعة الحادية عشر ليلاً يُؤنسون الشباب بحكاياتهم، وأحاديثهم، ولا تخلو ساعات السمر من جو الدعابة والمرح، فالغزيون يُعرف عنهم أنهم يُحولون آلامهم إلى نكِات".
وكان من ضمن الفعاليات المسائية التي أُقيمت على الحدود؛ صُلح عشائري بين عائلتين بحضور مئات المواطنين. سألنا شابًا، حين يعود المخاتير إلى بيوتهم؛ كيف تُكملون ليلتكم؟ قال: "الأنشطة والفعاليات لا تتوقف حتى الساعة الثانية فجرًا، كالدبكة والدحية، وسِباق الهجن ورقص الخيول، وحكايات الشباب أمام كانون النار عن حصاد يومهم".
شرق الشجاعية لا يختلف المشهد كثيرًا، لكن حضور النساء ليلاً يكون ضعيفًا مقارنة بمخيم خزاعة، والتجمع عند الخِيام يُضفي الطابع العائلي أكثر، فيما لسعة البرد التي تهبّ مساءً سيّما على المناطق الحدودية الخالية، جعلت من كانون النار أمر ضروريًا أمام كل خيمة.
هنا لن تمرّ بجانب أحد إلا ويطلب استضافتك لتشرب فنجان قهوة أو كأس شاي على النار، مع خُبز مقرمش بالزعتر.
خلال جولتنا مساءً شرق غزة، لفت انتباهنا مُسنّ كبير يجلس على باب خيمة وأمامه حفرة نار، اقتربنا منه، كان بالكاد يستطيع الحديث؛ إلا أنه مُصرّ على المشاركة. أبو زياد لبد (80 عامًا) شهد النكبة الفلسطينية عندما كان بعمر العاشرة، ولا زال يذكر كيف استقبل أهل البلاد حينها الجيوش العربية بالزغاريد والتصفيق ظنّا أنهم أتوا لنصرتهم. أخبروهم: "ستعودون إلى المجدل خلال أسبوعين"، تنهد ثم واصل الحديث: "المشهد لا يغيب عن بالي، خيّبوا آمال شعبٍ كامل وجعلوه رهنية التشريد والهجرة لسبعين عامًا".
يقول أبو زياد: "هذه الفعاليات أثارت في نفوسنا نحن الكِبار الحنين، فأن تكون المجدل على مدّ بصري ولا أستطيع الوصول إليها لأن بيننا وبينها عدو غاصب، والله لا أكبر من هذه الغصة في قلبي".
هل ترى من هذه الفعاليات أي جدوى؟ عَلت نبرة صوته قليلاً: "بالتأكيد يا ابنتي، يكفي أن قضيتنا عادت تطفو على السطح، بعدما حاولت أمريكا وإسرائيل تغييبها. يمكن إسرائيل بتفكر إنو الجيل الكبير أمثالي حتمًا سيموت، لكن كل الأجيال بعدنا لن تنسى حقّها في العودة".
اقرأ/ي أيضًا:
عندما قتل الاحتلال جهاد مقتلعًا عيون شقيقاته