تقول الحكاية إن امرأة رفضت التنازل عن ميراثها لأخيها، وعندما سألوها كما جرت العادة قديمًا: بدك مال وإلا رجال؟ في إشارة إلى أن تنازلها عن ميراثها يعني أنها اختارت الإبقاء على علاقة جيدة مع أخيها، عبرت المرأة بجرأة غير معروفة عن نساء زمانها عن رغبتها بالميراث. ولكنها وبعد أن أخذت ميراثها، وهكذا تقول الحكاية، أعادته مجددًا لاخيها، فهي لم تكن تريد المال بالأساس، كما قالت له، ولكنها كانت تريد أن تملك الحق في الاختيار، وأن تمسك المال بيدها ويصبح ملكها أولاً قبل أن تقرر منحه لأحد.
"إن الرجال لا يريدون أن تكون المرأة المرتبطة بهم مجرد عبد، بل يرغبون في أن تكون عبدًا بإرادتها ورغبتها وليس بالإكراه". هذا ما كتبه الفيلسوف جون ستيورات مل في كتابه عن أصول استعباد الرجال للنساء.
هناك سؤال لا بد منه: هل يعتبر الاضطهاد اضطهادًا إذا كانت الضحية موافقة عليه بل وفخورة به أحيانًا؟
ويوضح مل أنه ومن أجل تحقيق ذلك، فقد استخدم الرجال جميع الوسائل لاستعباد عقول النساء، وهكذا تنشأ المرأة على أن المثل الأعلى لشخصيتها هو النقيض المباشر لشخصية الرجل، فإذا كانت للرجل إرادة حرة وقدرة على ضبط النفس؛ فإن المرأة ليست لها هذه الخصال، بل هي تتميز على النقيض بالخضوع والاستسلام والطاعة لأوامر الرجل.
اقرأ/ي أيضًا: هل الحب مخيف أكثر من الكراهية؟
قد لا تبدو الحكاية معبرةً تمامًا عما قاله مل حول الرغبة بالعبودية واختيارها بإرادة حرة، ولكن حكاية مثل هذه تستحق أن تكون مقدمة لكثير من المقالات والنصوص التي تناقش قضايا النساء. فالمرأة في الحكاية تخدعك بأنها ستقدم لك نهاية سعيدة أخيرًا، ولكنها تفاجئك بأن الحلقة الاخيرة لم تكن الأخيرة، وأن هناك مشهدًا أخيرًا لن تستطيع قراءته، فلماذا عادت من طريق الحرية بعد أن مشت فيها أصعب خطواتها؟ هل كانت تريد فقط أن تجرب الإرادة الحرة للحظة؟ ولكنها كانت تعلم أنها لن تستطيع دفع ثمنها على الأمد البعيد؟
للأسف هناك سؤال لا بد منه: هل يعتبر الاضطهاد اضطهادًا إذا كانت الضحية موافقة عليه بل وفخورة به أحيانًا؟ ستسأل عن الأمثلة وسأخبرك بالكثير منها. أولاً تعال نقرأ معًا تعليقات بعض النساء السعوديات الرافضات لمنحهن حق القيادة، الناقمات على الناشطات اللواتي يطالبن بذلك، معتبرات أن عدم قيادتهن دليل على مكانتهن كملكات يخدمهن كل من حولهن.
ثم تعال لنشاهد معًا صورًا لنساء من الصين طويت أقدامهن ليحصلن على أقدام (اللوتس) ليرضين ذوق الرجال ورغباتهم الجنسية آنذاك. وبعيدًا عن الشكليات، فإن هذه العادة قيدت حرية النساء، بحيث كن يعتمدن بشكل كامل على أزواجهن وعلى الخدم؛ لعدم قدرتهن على الحركة بشكل عادي، وأصبح دورهن مقتصرًا على أعمال البيت.
صحيح أن هذا انتهى الآن، ولكنه انتهى بعد قرون من الممارسة، ولك أن تتخيل كم جيلاً من النساء جرب وجع طي الأقدام، ولكنه ورغم ذلك مارسه على الجيل التالي مع مزيد من الاعتزاز! انتهى طي الأقدام في الصين ولكن ختان البنات لم ينتهِ بعد، فالكثير من الأمهات في مصر والسودان ما زلن يجررن بناتهن إلى أسرة الختان ويفاخرن بذلك، رغم أنهن يعرفن جيدًا أن الوجع سيرافق الفتاة المختونة مدى الحياة في حياتها الجنسية. ثم ماذا عن الكثير من النساء اللواتي يسعدهن منع أزواجهن لهن من العمل/السفر/التعليم؟ على الأقل كل منا يعرف واحدة تفتخر بذلك، أليس كذلك؟
إذا كان السؤال الفلسطيني القديم عن الميراث يضع المرأة ضمن خيار تخسر فيه عائلتها إذا أردت حقها الشرعي والقانوني في المال، فإن حرية المرأة وحقوقها كثيرًا ما توضع في كفة مقابل شيء آخر؛ في مساومة غير منطقية يوضع فيها حقها مقابل شيء مهم يصعب على أكثرية النساء التخلي عنه: الزواج، العائلة، الأخلاق، وأحيانًا كثيرة أيضًا رضا الله. فكل موضوع يخص النساء، مهما كان بسيطًا، هو موضع مساومة أمام الكثير من الكلمات الكبيرة وذات العيار الثقيل في المجتمع.
ومن أجل ذلك، وخوفًا من الخسائر التي قد لا تعوض، اختارت الكثيرات أن يُعدن تسمية السلاسل التي تحيط أعناقهن وتجميل العبودية، كما قالت الكاتبة هبة عيسى: "دائمًا ستجد أشخاصًا يقولون بأن القيود قلائد" بل إن الكثيرات عن قصد أو دون قصد يتباهين بأنها حريتهن تكمن بعدم رغبتهن بالحرية!
اقرأ/ي أيضًا: