مات صباح اليوم. بدأ حياته بجمع بذار البطيخ من الشاحنات القادمة من مرج بن عامر إلى السوق لبيع البطيخ في السبعينيات، وأنهاها كصاحب محل للتجارة والكمسيون في سوق نابلس. قبل ذلك وبعده عمل حمّالًا في السوق، ثم دلاّلًا، قبل أن يصير صاحب محل يقصده المزارعون من كل فلسطين.
في سيرته شيء من سيرة المخيم قبل أن يختطف منّا المخيم. في سيرته شيء من أبطال الروائي المصري إحسان عبد القدوس، لهذا لا يمكن إلا أن تحبه. تقول الروايات عنه إنه في صغره كان يجمع الحجارة أمام بيت والده، في مخيم عسكر الجديد، ويجعل منها تشبه أكوام البطيخ في العرائش على الطريق وفي الأسواق، ثم يفتتح المزاد وينادي على أبناء المخيم من أبناء جيله ليشتروا منه ما يقول إنه بطيخ، رغم أنه في واقع الحال حجارة، والغريب أنّه كان ينجح في ذلك، في اللعبة، وبيع الحجارة كأنّها بطيخ فعلًا.
كبر في السوق، كان السوق والعمل فيه روحه، كما أمسى سيرته وحياته. هو جزء صغير استطاع مع الوقت أن يصير المكان كلّه.
موهبته الكبرى في شدة انتباهه. الانتباه في مهنة مثل هذه، إضافة إلى الصوت والجرأة، أشياء لا يمكن الاستغناء عنها. بالمناسبة، أليست هذه أشياء ضرورية لمهنة الكتابة وأصحابها أيضًا؟ الجرأة والانتباه والصوت الخاص، لا يمكن لكاتب تحقيق مشروعه دونهما. في الأسواق، قبل البضاعة، الصوت هو هوية صاحبه، هوية البائع مهمة في عملية البيع والشراء، ما يعني القبول من الناس وامتلاك شخصية محبوبة، مقرّبة من الجميع وودودة وصادقة.
هذه أسراره، أشياؤه الصغيرة ووصفته السرية للنجاح. الصدق والودّ الذي منحنا إياه صغارًا ومنحه للجميع وواصل منحه، جعله ثابتًا في المكان لا يذهب منه.
في التسعينيات، السنوات الذهبية، كان يمكن تمييز صوته وسط الباعة ومئات التجار القادمين من الشمال والجنوب. كان يقفز من هذه الشاحنة إلى تلك، بخفة وسرعة، دون أن يخطف منه الساحة أحد. هو مغرم بهذا، هذه العملية غرامه، إلى درجة أنّه يقفز، رافعًا كفّ يده إلى أعلى، مشيرًا إلى الناس وضاحكًا أن تعالوا إليّ. يفعل ذلك كما لو كان ينادي على الطفل الصغير الذي علّمه كل شيء في المخيم.
فيما مضى فكرتُ في الخروج، فكرت في عمل آخر. خريج جامعي يحمل شهادة في الإعلام ويريد العمل فيه، يريد وظيفة وبيتًا فيه مكتبة وسيارة وأشياء أخرى كثيرة، وقتًا ثابتًا كل يوم للقراءة والكتابة، لكن المكان وسحره كانا يأخذاني بعيدًا مما أريد. ليس من السهل التخلي عن العلاقات الحميمية التي تنسج مع مرور الوقت في المكان، أو الابتعاد عنها، ثم التنكر لها وممارسة تنظيرات متعالية على الحياة التي في مكان آخر، إلا أن أمثولة قاسم أنه جعل السوق مكان الحياة، ولهذا كان ذلك كفاحه الأكبر.
خرج أهله يوم خروج الفلسطينيين الكبير. تراه يبغي الرجوع إلى السرديات الأولى دائمًا. من الأول، من الأول كما يقول خليل، بطل رواية إلياس خوري "باب الشمس". وبطلنا بدأ من أول الأول.
أهله نزحوا من نواحي اللد والرملة باتجاه نابلس.
لم أسأله مرة رغم تبادل الحديث اليومي عن مسقط رأسه، فقد كنت متأكّدًا أنه ولد ليبيع، والباعة لمن يعرفهم مثل الرواة، أوطانهم ميادين العمل ولا يعود مهمًا مين أين جاؤوا، ولا أين سيمضون، لا إقامة دائمة لهم في الأمكنة، لكنهم في الوقت نفسه يطبعون المكان الذي يمرون فيه بطابعهم.
ستظل هذه الأرض تذكر بائع البطيخ، وسيظل أهلها يرددون سجاياه، فمن خلال حياته فقط صنع ما صنتعه ألوان إسماعيل شموط وكلمات غسان كنفاني.
اقرأ/ي أيضًا: