أخيرًا، وفي اليوم الأخير للمُهلة التي حددها القانون الأساسي الفلسطيني لتشكيل الحكومة، أعلن رئيس الحكومة الجديدة محمد اشتية، تشكيلة الحكومة الثامنة عشرة. جاءت هذه الحكومة عقب توصية قدّمتها اللجنة المركزية لحركة "فتح"، يوم 27 يناير/ كانون الثاني الماضي، بإقالة حكومة "التوافق الوطني" التي ترأسها رامي الحمد الله، وتشكيل حكومة من فصائل منظمة التحرير وشخصيات مستقلة.
التحرر بالنسبة للفلسطيني أولى من الدولة، وإن انخرط في السلطة أو الحكم، تظل هذه المسألة طارئة وغريبة عليه
خلال الأسابيع الخمسة الماضية، شغلت حالة الحكومة وطبيعتها، المستويات الرسمية والأهلية والشعبية. فعلى الصعيد الرسمي اجتمع اشتيه وأعضاء مكلفون من اللجنة المركزية لحركة "فتح" مع قيادات الأحزاب والفصائل الفلسطينية. ولم يختلف الحال مع المؤسسات غير الرسمية، إذ أجرى اشتيه والمكلفون مجموعة من اللقاءات مع شخصيات مستقلة ورجال أعمال وشركات ومؤسسات إعلامية وبحثية.
أما على الصعيد الشعبي، والفتحاوي تحديدًا، فأدى تكليف اشتيه إلى تحريك المياه الراكدة لدى الصالونات السياسية التي تجتمع بها قواعد الحركة وزبائنها ومنتفعيها، الأمر الذي ساهم في نفض الغبار عن السجالات الفتحاوية الغائبة. فمنذ توّلي حكومات التكنوقراط مفاصل الحكم الرسمية، غابت قواعد الحركة، وليس قيادتها، عن المشهد الحكومي، وتقلّص هامش مشاركتها السياسية وتأثيرها في القرار العام.
يُخطئ من يظن أن اللقاءات التي دارت في مضافات ودواوين الفصائل ناقشت تعقيدات المرحلة الراهنة أو بحثت أولوية تشكيل حكومة في ظلّ التحديات التي تواجه الفلسطينيين. فمع أن الاجتماعات والحوارات خرجت ببيانات تؤكد على هذه السمة، إلا أنه، وبدون أدنى شك، كانت هذه اللقاءات أقرب إلى الشكلية منها إلى الحوارات السياسية الجادة والمعمقة. ويكفي العودة إلى تصريحات الفصائل، منذ صدور كتاب التكليف، والتي عبرت جميعها عن موقفها بالمشاركة أو الامتناع.
إذا، لا مفاجآت تذكر. ولكن ما الداعي للقاءات رفع العتب هذه؟ يوجد تفسير واحد محتمل لجميع هذه اللقاءات. وهي مسعى بعض أعضاء اللجنة المركزية الترويج لشخص رئيس الوزراء بصفته شخصية سياسية توافقية على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، وله خبرة عريقة في إدارة مؤسسات السلطة الفلسطينية، تُمكّنه من إيجاد حلول للأزمات السياسية والاقتصادية والتنموية.
في المقابل، يوجد تفسير واحد محتمل لتأخر إعلان الحكومة. فإلى جانب انتظار الرئيس محمود عباس لنتائج الانتخابات الإسرائيلية، كشفت الأنباء الواردة عن اشتداد الأزمة بين مراكز القوى داخل حركة فتح على خلفية بعض الوزارات، منها ما حُسم أمره، مثل: الخارجية والمالية، ومنها من ينتظر، مثل: الداخلية والأوقاف. ما يعني، أن حكومة اشتيه تعاني الأمريّن، فهي من جهة لم تحظَ بقبول الفصائل الوازنة المنضوية داخل أو خارج منظمة التحرير، فإلى جانب حركة فتح، يشارك في الحكومة عضو واحد من حزب الشعب وآخر من جبهة النضال وآخر من فدا، ومن جهة ثانية لم تنجح الحكومة في تحقيق ما سعى له بعض أعضاء المركزية بلملمة تناقضات المتنفذين في داخل الحركة، إذ لم تلقَ الحكومة إجماعًا من جميع أعضاء اللجنة المركزية، فشغور الأوقاف والداخلية، سلط الضوء على وجود صدام محتدم بين أطراف الحركة.
أي حكومة تصر على العمل ضمن بنية النظام الاستعماري الاستيطاني، ولا تسعى للتحلل منه، بالنسبة للفلسطينيين، باتت أمرًا غير أساسي
إلى جانب ما ذكر، من الضروري الانتباه إلى ثلاثة اعتبارات بنيوية قد تساعدنا على فهم تحديات ستواجه حكومة اشتيه خلال المرحلة القادمة. أولًا: يجدر التأكيد بأن اتفاقات أوسلو السياسية والاقتصادية، والتي جاءت بالسلطة الفلسطينية ومؤسساتها، واعتبرت في حينه تجربةً فريدة؛ بصفتها أول ممارسة فلسطينية للحكم وإدارة شؤون الفلسطينيين، تمثل العقدة الرئيسية، كوّنها نموذج لا يسمح بنشوء سيادة فلسطينية. فهذا الاتفاق كان ولا يزال ضمانًا حقيقيًا، يعكس الانتقال في البنية الاستعمارية من مبدأ الاستعمار المباشر إلى الاستعمار غير المباشر. وهذا بطبيعة الحال، لا يعني إنهاء السيطرة على الفلسطينيين، بل تغيير النظام من نظام قائم على إدارة حياة السكان المحتلين إلى نظام لم يعد مهتمًا بحياة السكان الفلسطينيين. وبالتالي، فإن أي حكومة تصر على العمل ضمن بنية النظام الاستعماري الاستيطاني، ولا تسعى للتحلل منه، بالنسبة للفلسطينيين، باتت أمرًا غير أساسي، فالبقاء في السلطة، مطلبٌ ضروري وأولوية لخدمة وتنمية المستعمِر لا المستعمَر.
ثانيًا: إن هذه الحكومة كما مثيلاتها السابقة، تخضع بشكل مباشر للرئيس وسياسته وتوجهاته؛ فمنذ إنشاء السلطة الفلسطينية، وبالرغم من فصل منصب الرئيس عن منصب رئيس الوزراء عام 2003، فإن الرئيس يركز بين يديه جلّ الصلاحيات السياسية والاقتصادية والتشريعية والاجتماعية. فهذا النظام الذي ولد مركزيًا وسلطويًا، يرى بأن مؤسساته عبارة عن تفاصيل هامشية، وما نخبه سوى مساعدون. هذا هو المنطق الذي أسس به ياسر عرفات، النظام السياسي الفلسطيني المعاصر، قبل وبعد توقيع اتفاق أوسلو. عمليًا، يؤخذ على سلطة ناشئة محدودة ومقيّدة باتفاقات موقعة مع حكومة استعمارية، أنها أخفقت في إدارة مؤسساتها، ولكن لا يؤخذ عليها أنها لم تستطع إيجاد حل للمركزية الرئاسية. ولعلّ السمة الرئيسة في استمرار المركزية تقوم على تعيين رئيس وزراء لا يعارض توجهاته ووزراء موالون له. وبالتالي، فإن أي حكومة تقبل العمل ضمن المركزية الرئاسية، ولا تسعى للتحرر منها، بالنسبة للفلسطينيين، لا يعوّل عليها، فالصمت تجاه هذه المركزية، يحافظ على حالة الحصار التي تعاني منها المؤسسات الفلسطينية.
القبول بالوضع القائم، يفتح الطريق لاستمرار الإملاءات الإسرائيلية والأميركية والإقليمية
ثالثًا: إن الفلسطينيين وصلوا إلى استنتاج، وبالتأكيد بعد تجربة مريرة، أن الانقسام وضعنا أمام سلطتيّن واحدة في الضفة الغربية وأخرى في قطاع غزة، وأن الفلسطينيين دفعوا ثمنًا باهظًا لا يُمكن احتماله. فالتداعيات التي يفرضها الانقسام ونخبه الحاكمة في الضفة والقطاع، على القضية الفلسطينية وعلى النظام السياسي ومؤسساته، بات يرتقي إلى مستوى الخطورة غير المسبوقة، بل بات يعقد على الفلسطينيين احتمالية إيجاد حل سياسي لهذا الانقسام والسيطرة عليه وإيجاد مخرج له. فنحن اليوم أمام سلطتين لكل منها قوانينها وتشريعاتها وقواتها الأمنية واقتصادها ونخبها وعلاقاتها ومصالحها وحساباتها تجاه الدول الإقليمية والدولية. ولا يتوقع أن يحمل الأفق المنظور أي حل سياسي لهذا الانقسام، ويستثنى من ذلك احتمالية بروز نخبة فلسطينية شبابية تنزل إلى الشوارع والميادين، لتقول كفى للانقسام. وبالتالي، فإن أي حكومة تقبل العمل ضمن الانقسام الفلسطيني القائم، كما فعلت واستفادت وتماهت حكومات التكنوقراط منذ 2007، ولا تسعى لإيجاد حل جذري له، بالنسبة للفلسطينيين، لا يعوّل عليها، فالقبول بالوضع القائم، يفتح الطريق لاستمرار الإملاءات الإسرائيلية والأميركية والإقليمية على الفلسطينيين.
الواقع الحالي يترك الفلسطينيين منكشفين في مواجهة الضغوطات التي سلتحق بهم وبمصير قضيتهم
أضف إلى ما ذكر أعلاه، أي، التحديات الداخلية التي برزت مع مشاورات تشكيل الحكومة والمعضلة البنيوية التي يعاني منها النظام السياسي الفلسطيني، لا بد من التأكيد، بأن الفلسطينيين أمام واقع جديد، إقليمي ودولي، يقوم على إدارة أميركية شعبوية، منحازة إلى إدارة إسرائيلية يمينية متطرفة، يلهث ورائها أنظمة سياسية عربية جلّ اهتمامها قبول إسرائيل وتطبيع العلاقة معها. كل ذلك يترك الفلسطينيين منكشفين في مواجهة الضغوطات التي سلتحق بهم وبمصير قضيتهم، ليس فقط في مواجهة التحديات الداخلية، وإنما بما ستحمل الإدارة الأميركية معها باستكمال الإملاءات المعروفة بـ "صفقة القرن"، وما تحمله الحكومة اليمينية الإسرائيلية، وتحديدًا مع مشروعها القاضي بضم أجزاء من الضفة الغربية.
وعليه فإن برنامج اشتيه القائم على تعزيز صمود الفلسطينيين على أرضهم وتوسيع قاعدتهم الإنتاجية وتعزيز الثقة بين الحكومة والمؤسسات والمواطن، بالنسبة للفلسطينيين أمرٌ غير ضروري، فالضروري هو تحقيق الوحدة الوطنية وفتح حوار ديمقراطي لجميع القوى والفصائل داخل وخارج فلسطين والتحلل من الاتفاقيات السياسية والاقتصادية مع المستعمِر الإسرائيلي، وإعادة الاعتبار للتحرر من الاستعمار.
إما أن تقوم القيادة الفلسطينية، بإعادة الاعتبار لمركزية القضية، كقضية تحرر، أو تترك الخيار للفلسطينيين لمقاومة هذا الواقع المرير
هذا البرنامج بات خيار الفلسطينيين الوحيد، فجميع هذه الضغوطات تضع الفلسطينيين أمام حكومة الوادع الفلسطيني ضمن صيغة حلّ الدولتين، فإما أن تقوم القيادة الفلسطينية، بإعادة الاعتبار لمركزية القضية، كقضية تحرر، وليست قضية سلطة أو حكم أو دولة، وتنطلق من الواقع الجديد وتعقيداته لترسم معالم النضال القادم وتجدد في خطابها وسلوكها أو تترك الخيار للفلسطينيين لتنظيم أنفسهم ومواجهة هذا الواقع المرير ومقاومته، وهم أقدر على ذلك، مع تحميلهم (القيادة) كامل المسؤولية عن الوضع الذي وصلنا إليه اليوم.
بالمحصلة، في الحالة الفلسطينية، الدولة كمفهوم وممارسة، مسألة غريبة على الفلسطينيين. فهذا الشعب، لم يأبه يومًا بالدولة، فهو لم يمارس نشاطه على بقعة جغرافية متصلة ولم يشرف نظام له سيادة على نشاطاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بينما مارس ولا يزال يمارس فعل المقاومة كطريق للتحرر من الاستعمار. فالتحرر بالنسبة للفلسطيني أولى من الدولة، وإن انخرط في السلطة أو الحكم، تظل هذه المسألة طارئة وغريبة عليه.
اقرأ/ي أيضًا:
18 حكومة فلسطينية.. هؤلاء قادتها