في الطَّريق من بلدة عَقربا إلى الأغوار، تَنحدِرُ بِكَ الأرضُ نازلَةً نحو الشّرق بفارقٍ واضحٍ في الارتفاع عن مُستوى سطح البحر. وحينَ تُطلُّ من حافَّةِ الطَّفِ الشَّرقي من ارتفاعٍ ينوفُ عن ستمائة متر، ستُدرِكُ أنّك بدأت تنخفض جُغرافِيًا من الجبالِ الوُسطى إلى الأغوار. في غضون ساعة، سَتَتراءى لَكَ تِلالٌ وَوهادٌ جَرداء تَمتَدُّ في الأُفق المُنخفض من جغرافيا السُّفوحِ الشَّرقية لفلسطين، ويتخللها سُهولٌ حمراء التُّربة تُعرف باسم خربة الطويّل (إطْوَيِّل).
خربة الطويّل منطقة خَصبة تشهد صِراعًا منذ العام 1967م، إذ تحاول دولة الاحتلال فرض سيطرتها عليها وتهجير السّكان منها عبر سياسات الهدم والقتل والمُلاحقة. هذا الأمر تكثف في الآونة الأخيرة بعد تطويق الخربة بالبؤر الرعوية التي تخدمها أجهزة الدولة الاستعمارية، وتدفع بها لتحقيق مساعيها في السَّيطرة على الأرض، وهو ما يتصدى له أهالي الخِربة، ويحاولون بدمهم إفشاله منذ 55 عامًا، التي كان آخرها تقديم ثلاثة شهداء على أرض الخربة التي تعرضت للهدم أكثر من 37 مرة خلال العشرين عامًا الماضية.
تتكون خربة الطويّل من عِدَّة تَجمّعاتٍ مُتناثرة على تلالٍ وَعِرَة، مُتباعدة مُرتفعة عَمّا دونها من الأرض، ويتفاوت ارتفاعها بين (270-400) متر فوق مستوى سطح البحر، ويتخللها سهولٌ زراعية واسعة ومُمتدة طوليًا
في هذا النص نُحاول بيان موقع خربة الطويل، وأهميتها وطبيعة الحياة فيها قبل أن تُخنَق بفعل الاحتلال وأدواته.
تلالٌ وَعِرَة وَسُهولٌ خَصبَة
تتكون خربة الطويّل من عِدَّة تَجمّعاتٍ مُتناثرة على تلالٍ وَعِرَة، مُتباعدة مُرتفعة عَمّا دونها من الأرض، ويتفاوت ارتفاعها بين (270-400) متر فوق مستوى سطح البحر، ويتخللها سهولٌ زراعية واسعة ومُمتدة بشكلٍ طولي (إطويّل) وتُربتها حمراء (سَمكة) وتمتد الخربة على مساحة تبلغ 40 ألف دونم. وَتعتبر هذه المنطقة، بما فيها من سهل ووعر، بوابة بلدة عقربا نحو أراضيها في الأغوار، التي تمتد شرقًا حتى نهر الأردن بمساحة تبلغ 144 ألف دونم، ويدخل فيها الأرض الواقعة بين فصايل والجفتلك.
ويقوم في أقصى الخربة من جهة الشرق تلٌ أثري عليه أساساتُ بُرجٍ مُطِلٍ يُعرَفُ باسم "تَل راس الطويّل"، فيما يَقَعُ في أعلى طرف المنطقة الغربي-الجنوبي خربة قديمة تُعرف بـ "خلّة الخشب". والخربة مأهولة منذ القدم، ويدل على ذلك بقايا معالمها الأثرية، والكهوف والمغر والصِّير الحجرية المبنية قديمًا، والآبار الكَفرية المنُتشرة في تلال الخربة وأطرافها، وفي الخربة بيوت حَجر (سكايف) مبنية على أطراف التلال الغربية، وكانت عامرة وفيها حياة مُستقرة منذ أكثر من مائة عام، وقد شُمِلَت في إحصاءِ السّكان في 19/11/1961 حَيثُ بلغَ عَدَد سُكّانِها نَحو 126 نَسَمَة.
زَاوَجَ أهالي عقربا بَينَ صَنعتين هُما: الفلاحة وَرعي الأغنام وذلك مُنذُ القِدَمِ، وكان لموقع بلدتهم في سلسلة الجبال الوسطى وامتداد أرضهم في الغور شرقًا حتى نهر الأردن أثرٌ في نَمَطِ حَياتهم وَمعيشتهم
وتعتبر هذه الخربة مع ما يحيط بها من أراضٍ في شفا الغور من أخضب أرض بلدة عقربا الواقعة في السّفوح الشّرقية، وتَشمَلُ أرض عقربا في الشّفا عِدَّة تلالٍ وسهولٍ تشرف على الأغوار، ولها تَسمياتٌ وَحُدودٌ مَعروفة، منها: العُرقان السَّبعة، وخزاعَة، والسّدور، والفَخِتْ، والمُطيعمِة، والرَّواع، وإكنيفِشْ، ومراس دين، وتل الطويّل، والشّيلَه، وتل السُّويد، وقَطْعِة الحَيّة، وجَبل طَيّ، وخَلّة إعصَيم، وزَواتَه، وظَهر حِمار، وداميِه، والمَطارِقْ، والمَراوِحْ، وخَلّة الرّاهِبْ، والجُرفَة، وبُقعانْ لِنجِي، وعُرقان البَقَر، وفَرامِيّه، وجبل الطّايرِة، ومراح عَلي، والقَطْعَة، والكَفايِفْ، والمُرحانْ، وأبو الرّيسَا، ولِنْجِسْ، والجهير، والدَّوا، والجَرايِشْ، ونَقّار إعراق الأَبيَضْ..الخ.
وقد زَاوَجَ أهالي عقربا بَينَ صَنعتين هُما: الفلاحة وَرعي الأغنام وذلك مُنذُ القِدَمِ، وكان لموقع بلدتهم في سلسلة الجبال الوسطى وامتداد أرضهم في الغور شرقًا حتى نهر الأردن أثرٌ في نَمَطِ حَياتهم وَمعيشتهم، فاستَغلّوا الصَنعَتينِ في دَورتي فِلاحَة حَسبَ روزنامة الفلاحين وَميقاتِهِم، فَما تُنضِجُه أرض الغور زرعًا وثمرًا يَسبِقُ ما تُنضِجُه سُهولُ قَريتهم المُعْتَلِيَة، وبين مُنخَفَضِ الأرض في الغور وَمُرتَفَعِها في الجبل تكون مواسمهم وفترات نزولهم في أرض الشّفا في الكتف الشرقي لسفوح الجبال الوسطى.
كما استغل الفلاحون سهول خربة الطويّل البالِغَة نَحو عَشرة آلاف دونم في زراعة القَمح والشَّعير والذّرة والمحاصيل الصيفية، واستخدِمَت التِلالُ المُمتدة الجرداء كَمراعٍ للمَواشي والأغنام، التي تُقدّرُ في عَقربا اليوم بنحو 20 ألف رأسِ غَنم، فكانت هذه المنطقة شريان حياتهم وغذائهم، وهي الحبل السري بين الغور والبلدة، ومن خلاله تُدامُ الحَياةٌ وَتَستَمِر.
وَلَعلَّ مما يُميّزُ خربة الطويل، بالإضافة لموقعها المشرف على الأغوار وامتداد أرضها وتنوع جغرافيتها بين السهل والوعر، أنها كانت أرض عِزبٍ للبَدو والفلاحين من عقربا وبعض عشائر البدو في الغور، حيث كان ينزل على أطراف الخربة، وفي سهلوها في الصيف عشائر بدوية داخلة مع العقاربة في حلف الغور، ومن هؤلاء عرب المساعيد والحناحنة والصعايدة وخزاعة والعبابيد والصقر، ونجد المناطق في خربة الطويل تُنسب لهم مثل منطقة "خزاعة" في سَهل السّدور وهي منسوبة لعَربِ خُزاعة، وَهناك صخرة كبيرة تعرف بـ "حَجَر الحَناحنِة" نسبَةً لبدو الحَناحنة، كما حدثت مُصاهرات بين العَقاربة والبدو، فقد تزوج الأمير علان الضّامن شَيخ المساعيد من السيدة فوزية المالك ابنة مختار عقربا الشيخ قاسم المالك، واستقرت أحد عائلات عرب الصقر في عقربا، ورحلت عائلة البشايرة من عقربا وعاشت مع المساعيد، وتزوج بعض فرسان عقربا من عرب عبّاد، وكان بدو الصعايدة من العوجا يعدّون أنفسهم من حمائِل عقربا وأهلها.
التَّعزيب .. كنَمَط حياة
العِزبْ أو التَّعزيب من كلمة العِزبة، والجمع عِزَب وعزبات وهي التجمع الصغير المسكون، ويكون سَكَنُ النّاس بالعِزَب عَادة كُهوفًا أو بُيوتًا من حَجَرٍ أو عَرائِش، أو في خيامُ الشَّعر والخَيش. والتّعزيب إقامةً مُؤقَّتةً (مَوسمية) في الغالب، وهو عند رُعاةِ الأغنام يَعني الانتقال للإقامَةِ والعَيش في العِزَبِ الواقِعَةِ في الأغوار أو في الشَّفا لِرَعيِ المَواشي في فَصليّ الشّتاءِ والرَّبيع، وذلك لأجل الحفاظ على الثَّروَةِ الحَيوانيَّةِ وَتوفير ما تَحتاجه من عُشبٍ وَمرعَى مُناسِب، دُونَ الاضطرارِ للاعتمادِ في إطعامِها بِشَكلٍ أساسِي على الحُبوبِ كَالقَمحِ والشَّعير والكِرسَنَّةِ أو الأعلاف ذات الكُلفَةِ المالية العَالية. والتّعزيبُ عِندَ الفلاحين يَعني أيضًا الانتقال في مَوسِم القَيظ من القُرى إلى الكُرومِ التي فيها العِنَبُ والتّين ونَحَوُه، وَيُقيمونَ هُناكَ في بيوتِ الحَجَرِ (القصور \ المناطير) والعَرائِشْ.
وموسم التعزيب في غور عقربا يبدأ مع بداية الخريف وَهُطول أوّل المَطر، فينزلون إلى عِزَبِهم في قلب الغور، من خربة الطويل حتى كتاير نهر الأردن، فتعمر تلك البلاد بالغَنّامة والعَزّابة لعدّة شهور، وينزل كل صاحب شَلية غنم كما ينزل من لا يملك إلا رأس غنم أو بقرة واحدة، إذ يطلب الكل الخير الذي في الأغوار، ولا يبقى في بلدة عقربا إلا كبارُ السّن، ومن طريفِ ما كان يُقال عن نزول العقاربة إلى الأغوار ما يُردّد من طَقطوقَةٍ مُغنّاة على لسان شاعر القرية أبو عيسى العقرباوي:
قَرايبي نِزلوا على الغَور .. كُلمَنْ مِتْمَنّح لَه ثَور
دَشَّروا بِوجهي صَبّاحْ .. مَركَزه حَيط أَبو ارشيد
وإذا أقبل الصّيف على الأغوار، وبدأت شَمسُ شَهرِ نيسان/أبريل تَلفَح وُجوه المُقيمين بالأغوار ارتحلوا (تَرَفَّعوا) نحو تلال الشّفا وَسهوله، ويكون أكثر مُستقرهم في خربة الطويل وفي محيطها. حيث كانوا ينزلون ويقيمون في الكهوف والمغر والصِّير المتناثرة، أو يَنصُبونَ خيامهم وبيوتَ الشَّعر والخَرابيش على أطرافِ السّهل، وفي جَنباتِ التّلال المِذْرِيَة (المُتوارية عن الرّيح)، وَبعض أهلِ عَقربا من كبار الغَنّامَةِ يَرتَحِلُ بِشَلايا الغَنم إلى مناطق جبال سلفيت وجماعين، ويبقون هناك حتى نهاية الصّيف، وبعض الغنامة ينزل سهول القرية وأطرافها، مثل: سهل العين والمرج ومحفوريا، كما كان بعض أمراءِ البَدو وَشيوخِهِم الذين يرتفعون في الصّيف، وينزلون في أرض عقربا يُخصّون بأن تُنصَبَ خِيامُهم في سَهل العَين وسط عقربا إكرامًا لهم.
ويبقى الغَنّامة من أهالي عقربا والبدو في محيط وأطراف خربة الطويّلْ حتى نهاية مَوسم القَيظ، لأن المَنطقة أقلُّ حَرًا من الغور ومناخها مُعتدلٌ ويتلاءم مع نمط حياتهم، ووجود شَلايا الغنم مهما كَثُرَت لا يَضرُّ ولا يُزعِج لاتّساع الأرض، وَبُعدِها عن الزّرع وَالبيوت. وَمع بدء تساقط أمطار الخَريف تبدأ دورة الفلِاحة الجديدة، فينزل البَدو إلى مضاربهم، ثُمَّ يَلحَقُ بهم غَنّامة العَقاربة فينزلون في أرضهم الغَورية إلى الغرب من نَهر الأردن.
دكّان الصادق
كان الأهالي في خربة الطويل يحصلون على بعض ما يحتاجونه من مونة وحوائج من الدكاكين في بلدة عقربا، لكن مقصدهم الدائم كان لأسواق مدينة نابلس وتجارها، وبعضهم كان عليه السفر إلى سوق النبي شعيب في السلط لشراء القمح والبذار تحديدًا، الأمر الذي يعني قضاء يوم في رحلتهم إلى مدينة نابلس أو السلط.
وكان بعض الباعة المتجولين (الدّواجين) الذين ينزلون إلى الخربة والأغوار يخففون عليهم، ويوفرون بعض الجهد والوقت ببيعهم بعض الحوائج كالخضار والفواكه ولوازم البيوت، وخصوصًا في فصل التعزيب، ويشتري هؤلاء الباعة المتجولون البيض واللبن والجبنة والسَّمن وغيره من المُعزّبين. كما كان بعض التّجار يأتي إلى الخربة بحمولة من الجِمال فيها (العجوة والقمح)، ويبيع الناس بدوًا وفلاحين حاجتهم قبل أن يحمل بقية الحمولة إلى الدكاكين في القرى والمدن القريبة.
غير أن الاستقرار في خربة الطويل، والحياة الثابتة لعددٍ من العائلات التي أقامت في السّكايف والمُغر، وأنشأت صيرًا وأحواشًا لأَغنامِها كان يفرض عليهم الحاجة إلى دُكانٍ يُوفِّرُ ما يلزمهم من مُونة وحوائج تغنيهم عن الاضطرار إلى التوجه إلى بلدة عقربا أو مدينة نابلس أو مدينة السلط، ويكون بمقدورهم الشراء بالدين إلى حين بيع الأجبان أو الخراف وتوفر السيولة، الأمر الذي تحقق في أربعينيات القرن الماضي حيث بادر السيد صادق أبو حمد -رحمه الله- إلى بناء (سَكيفَة) من حجر على طرف الطريق الذي يصعد من سهول الخربة إلى بلدة عقربا، وأقام بها دُكانه في الطويل، وقد عُرفت الدُكان باسم (دُكّانة الصّادق).
في العام 2014 كثّف جيش الاحتلال عمليات هدم البيوت و(السّكايف) في خربة الطويل، وكانت هذه الموجة الاستعمارية من أشدّ عمليات الهدم التي طالت الخربة والسفوح الشرقية منذ العام 1967م
كان زبائن الدّكان من الفلاحين والبدو كما تُشير دفاتر الحِسابات والقيود، ونطالع في الدفاتر أهم الأصناف التي بيعت وَسُجّلت، ومنها: (العَجوة، والسّكر، والشّاي، والحَلاوه، والرّاحه، والكاز، والخيطان، ولمبات الكاز، والكَعكَبان ..الخ). وبافتتاح هذه الدكان أصبحت الحياة في خربة الطويل أكثر سهولة بوفرة ما يحتاجه الأهالي، وصار مشوارهم لمدينة نابلس أسبوعيًا لبيع الأجبان أو شراء ما يُحتاج إليه من كميات كبيرة.
وقد بقيت الدُكان قائمة حتى العام 1968، لكن ونتيجة ما تعرّضت له الخربة من تضييق من جيش الاحتلال اضطر صاحبها لإغلاقها والعودة إلى عقربا. ولا تزال حتى اليوم واجهات الحجر لـ (السِّكيفة) قائمة في خربة الطويل شاهدة على تاريخ الدكان، وحكايات صاحبها مع زبائنه الذين قيّد أسمائهم ومشترياتهم في دفاتره.
البقاء في مواجهة الاقتلاع
في العام 2014 كثّف جيش الاحتلال عمليات هدم البيوت و(السّكايف) في خربة الطويل، وكانت هذه الموجة الاستعمارية من أشدّ عمليات الهدم التي طالت الخربة والسفوح الشرقية منذ العام 1967، يومها وكنّا نشعر بالألم على ما يجري في أثناء توثيق عمليات الهدم، مال إليّ الحاج طه خضر أبو لحية -رحمه الله- وكان أحد أركان الصّمود في هذه الخربة، فقال لي بصوت مُرتفع: "لَو يِقلِبوهَا عَ رُوسنَا مُشْ طاَلعِين مِنها"، وهذا ليس تَعبيرًا مجازيًا ولا كلامًا إنشائيًا يقال للإعلام، ذلك أنّه فعلاً حال الناس وموقفهم، فهذا الرّجل لاحَقَهُ الهدم والاقتلاع وتجريف المحاصيل وتخريبها واعتقال الأبناء منذ العام 1967، وبقي صابرًا صامدًا يُعيد البناء والزراعة كلما حلّ الهَدَمُ والخَراب كأنه أحد التلال الصخرية التي تحمي سهول الطويل.
وخلال السنوات العشرة الماضية شهدت الخربة إلى 37 عملية هدم وتجريف، وقد أزيلت الأبنية وَلوحق الأهالي الذين رفضوا ترك الخربة والتخلي عن واجبهم في الصمود والبقاء، ورفض سياسة التهجير والاقتلاع، ثمن دفعه الأهالي للبقاء في السفوح الشرقية وشفا الغور، ولتبقى الأرض بيد أصحابها تجود بِغَلاتهم، وتحكي لُغتهم وتأبى أن تكون طيعة بيد الاحتلال وعصاباته، وكان آخر هذه الإجراءات هدم جيش الاحتلال بعض منشآت الخربة في الأول من تموز/يوليو 2024.