لا شيء يُطفئ وحوحة البرد القارس خلال ليلٍ ماطر إلا شبّة النار في فحم الزيتون المُشتعل في مواقدنا. فـ"الدفا عفا والبرد قاتول"، ولأجل ذلك جاءت التوصية: "في كانون كِن في بيتك وكثّر من حطبك وزيتك"، ومثله قولهم: "في كانون حَضّر الفَحم والكانون".
لطالما كانت مواقد النار لا تنطفئ في البيوت إلا بزوال الشتاء في آخر آذار "خبوا فحماتكم الكبار لعمكم آذار"
ولا عيب أكبر من دخول الشتاء دون اكتناز الحطب و"القرامي"، حتى قيل: "أحيه أحيه يا بَردي قُصفة حّطب ما عندي". فلطالما كانت مواقد النار لا تنطفئ في البيوت إلا بزوال الشتاء في آخر آذار "خبوا فحماتكم الكبار لعمكم آذار".
أولها شرارة
حين نعود للبحث عن الجذوة الأولى للنار نجد بأن الثقافة المتصلة بها قديمة، وهي مُرتبطة بالبدايات الأولى للحضارة، حتى أن بعضهم اعتبرها الاكتشاف البشري الأعظم بعد اللغة، لما لها من دور في تطور البشرية وتحسن حياتها وطعامها، فلولا النار ما عرفنا ميزة طهي الطعام وفي المثل الشعبي يُقال: "ما فش حلاوة من غير نار".
وطوال عُمر الحضارة ظلت النار حاضرة كوسيلة للتدفئة، وطهي الطعام وتسخين الماء، والحماية من الحيوانات المفترسة، وقد أبدعت البشرية في توظيفها بما يخدم ثقافتها وفلسفتها في الحياة، ولذا لا عجب أن نشعر بهذه العلاقة المثالية بين الإنسان والرغبة بالجلوس أمام مواقد النار.
مواقد النار مرت بتطورات كثيرة، إلا أنها حافظت على جوهر حضورها كأنيسٍ للسُمّار في ليالي الشتاء
ومن المُسلم به لدينا أن مواقد النار مرت بتطورات كثيرة، إلا أنها حافظت على جوهر حضورها كأنيسٍ للسُمّار في ليالي الشتاء، كما أن روح تلك الجلسات لم يتغير، سواءً كانت النار مُضرمة في مدافئ الحجر المبنية في واجهات البيوت والمعرفة بـ"الوجاق" أو في كانون النار "المنقل" أو في دفّاية الحطب ذات المدخنة، وحتى في المدافئ الحديثة كصوبات الغاز والكهرباء.
اقرأ/ي أيضًا: رحلة شتوية في تراث فلسطين
ومن تطور حضورها اليوم بناؤها في البيوت للتدليل على الفخامة والترف، إضافة لأهميتها في بعث صورة عن جمالية الحياة وصناعة الدفء بطريقة تضفي بُعدًا جماليًا على البيوت.
لقد كان الدافع الأساسي لتطور مواقد النار هو الرغبة في تطويعها والقدرة على استخدامها بعيدًا عن خطرها ومنعًا لأذاها فـ"النار ما بتحرق إلا رجل واطيها"، وكل ما كنّا نحتاجه هو قَدحة تتولد عنها شرارة فتشبّ النيران في الحطب ليتحول جمرًا متّقدًا، ومن هُنا بدأت رحلة مواقد النار، والنار "أولها شرارة" كما يُقال.
فاكهة الشتاء
تحولت مواقد النار مع الوقت لظاهرة جمالية يتغزل بها الناس ويسارعون لإضرام نارها طلبًا للدفء، وتجميلًا للسهرات واللمّات العائلية في رواق البيت وحجراته، أو في الخلاء حيث تُقام جلسات السّمر. فلا شيء يعدل الاجتماع حول موقدة النار وصوت طقطقة الخشب ينبعث منها، بينما تعلو بين الفينة والأخرى ألسنة اللهب ويتطاير منها الشرر.
وقد صار الدفء المنبعث من النار مع الوقت رمزًا يُدلل على متانة العلاقات العائلة، ونُعبر عنه بقولنا: "دفء العائلة". ومن جميل حضورها في ليالي الشتاء أنها وصفت بكونها فاكهة المجالس "النار فاكهة الشتاء واللي ما يصدق يصطلي".
ويمتدح الناس مجالسهم حول مواقد النار صيفًا وشتاءً بقولهم: "يا زين مجلسنا ع شبّة النار". وقديمًا كانت سهرات الأعراس في فلسطين تقام حول مواقد النار، حيث يُجمع لهذه الأعراس حُزم الحطب والنتش (البلان) فتوقد نار عظيمة يستمر الفرح حولها سبع ليالٍ ملؤها الفرح والرقص والغناء.
كان الناس يضرمون النار إذا دعا داعي الحرب، وإذا صاح مستجير، وإذا عاد مسافر، وإذا أقبل ضيف، كما استخدمت وسيلة إرشاد وشعلة إنذار على رؤوس الجبال
والنار في ثقافتنا حاضرة ولها وظائف كثيرة، غير التدفئة والطعام، فكان الناس يضرمونها إذا دعا داعي الحرب، وإذا صاح مستجير، وإذا عاد مسافر، وإذا أقبل ضيف، كما استخدمت وسيلة إرشاد وشعلة إنذار على رؤوس الجبال.
وقد قالت العرب في ذلك:
فَأبصَر نَاري وهي شقراءُ أوقدت بعلياء نَشزٍ للعُيونِ النواظرِ
شبّة النار
نقول للنار إذا أُضرمت وتوقدت "شَبَّت"، وبعضهم يقول لشرارتها "قدحة"، وهي ما يتولد من ضرب حجرين ونحوه. و"شبّة النار" محل مدح عند العرب باعتبارها "داعِ الكرم ومنادي الضيفان"، وهي مقياس "النبوغ والبلوغ" ذلك أنهم يمتدحون من تُوكل بهذه المهمة إذا أتقنها، فيصفونه بأنه: "شَبّاب نار"، وفيه ضُرب المثل بالرجل النابغ سريع البديهة ذو الرأي الرزين، وفي المثل الشعبي نقول: "الخيل من خيالها والنار من شبّابها".
إذا أتقن الفتى إضرام النار صار في عين الناس شابّا: "صار يِشِب النار"، ويُمتدح الشاب الجميل حسن الوجه بأنه: "مشبوب" كأنه أُوقِدَ بالنار
وإذا أتقن الفتى إضرام النار صار في عين الناس شابّا: "صار يِشِب النار"، ويُمتدح الشاب الجميل حسن الوجه بأنه: "مشبوب" كأنه أُوقِدَ بالنار. وفي سن الشباب ينمو جسد الفتية سريعًا فنقول: "بِشِبّوا شَب" كأنهم لهب النار إذ يتصاعد.
اقرأ/ي أيضًا: الشتاء في لهجتنا العاميّة
كما ينبغي للرجل أن يُشعل النار بمجرد أن يُقيم بيته أو ينصب خيمته في مكان جديد، ويقولون في ذلك: "فلان شَب ناره" كناية عن استقراره بالمكان الجديد. ومنها عرفنا "المِشَب" وهو مكان إيقاد النار وإشعالها.
مواقد وكوانين
لأجل احتواء شبّة النار وضمان استمرارها مُضرمة في الحطب من غير أذى للجلوس حولها في البيوت والمضافات كان لا بُد من مِجمَر وهو ما يوضع فيه الجَمر والحطب لأجل التدفئة، وكان في أصله من طين أو فخار ثم صار من معدن كالحديد والنحاس، ويمكن اعتبار المجمر التطور الأول عن حويط الحجارة الذي توقد به النيران والمعروف بالموقد/ الموقدة.
غير أن أكثر ما نعرفه اليوم هو المنقل أو الكانون، وهو بمعني المَوقد والمِدفأة، ويصنع من الحديد في الوقت الحاضر، وإنما سُمي الكانون مِنقلاً لأنه يُنقل من مكان لآخر.
سُمي الكانون مِنقلاً لأنه يُنقل من مكان لآخر
والكوانين أو الكانونان هُما كانون الأول وكانون الثاني (الشهر الثاني عشر من السنة والشهر الأول من السنة التي تليها) وهي أشهر الشتاء والمطر والبرد. وفي المثل نقول: "بكانون اترك النار في الكانون"، أي في شهر كانون اترك النار مشتعلة في المنقل طلبًا للدفء.
اقرأ/ي أيضًا: عن المستقرضات وعجوزها.. وأمطارها الغزيرة
ولا يزال المنقل/الكانون أشهر وسائل التدفئة فلسطينيًا، حيث توقد النار فيه وقت الغروب في وسط حوش الدار، وتضرم ناره في جذوع الشجر وجفت الزيتون والقرامي، حتى إذا صارت جمرًا نُقل الكانون لداخل البيت.
كما استخدم مع المنقل /الكانون عند تحضير النار (التنكة)، وهي عبارة عن صفيحة من التنك مُكعبة أو اسطوانية، يقومون بقص قاعدتيها العلوية والسفلية فتكون مفتوحة من الطرفين، وبعدها يعملون لها ثقوبًا جانبية لتسمح بدخول الهواء إلى الحطب لمساعدة النار على الاشتعال، فتوضع هذه "التنكة" وسط المنقل/الكانون ثم يوضع الحطب والقُصف داخلها ويوقد عليها.
حطبٌ وحكايات
إذا كان لا بُد من المواقد، فإنه لا مواقد من غير حطب، ولطالما كان جمع الحطب وتخزينه مُهمة محورية في الحياة الريفية. وكانت مهمة جمع الحطب من أشق المهن وأقساها، حيث تقضي النسوة أيامًا وهُنَّ يجمعن قُصَفَهُ، ثم يربطنها في حزم ويحملنها على ظهورهن للقرى والتجمعات لاستخدامها في التدفئة والطبخ، وكذلك لسهرات العرس وليالي الفرح، وفي المثل يُقال: "حضر الحطب والعريس بعده ما خطب".
كانت النسوة يقضين أيامًا وهُنَّ يجمعن قُصَفَهُ، ثم يربطنها في حزم ويحملنها على ظهورهن للقرى والتجمعات لاستخدامها في التدفئة والطبخ
كما أن هذه المهمة تحولت مع الوقت لمصدر دخل للرجال الأشداء الذين كانوا يجوبون الغابات ويقطعون أفضل خشبها وأكبره، حيث كان أفضل وسيلة للطبخ والتدفئة، وكما يقال في الأمثال الشعبية: "النار بالقرامي الكبار"، أو "النار بالفحمات الكبار".
مهمة حملت معها حكايات المغامرات والمشاهدات الغريبة التي تحولت مع الوقت لأساطير وخرافات يتناقلها الناس على ألسنة الحطابين والحطابات. فنقرأ في الحكايات الشعبية نصوصًا كثيرة عن مغامرات "الحطاب والغول"، كما نسمع في أغانينا وأهازيجنا بعض ما تردده النساء الشاكيات من هذه المهمة:
يا زريف الطول هيك الله كتب .. مضينـا العمر نجمـع الحطب
يا زريف الطـول وتقـله ردلـي .. والحطـب أخضـر والشتا هَلّي
وتغني النسوة في الأعراس على لسان الفتاة التي تأمل بأن يُسعدها زمانها:
ﻋﺸرﻴن ﻴﺠﻴﺒو اﻟﺤطب وﻋﺸرﻴن ﻟﻠﻤﻴّﻪ
وﻋﺸـرﻴن دق اﻟﻛﺤـﻝ ﻟﺴـود ﻋﻨﻴـّﻪ
والنار حاضرة في الغناء الوطني، ولعل واحدة من أشهر ما نعرفه:
هبّت النار والبارود غنى .. اطلب شباب يا وطن واتمنى
ولا تنتهي قصص الحطب والنار، بل يتداخل قديمها بحديثها بدءًا من الطائر الأسطوري الذي يعيش نحو 500 سنة ثم يحرق نفسه بالنار التي تتولد من حركة جناحية، فإذا صار رمادًا انبعث من الرماد طائر جديد. وكذلك حكاية "جبل النار" وما فعلته جموع نابلس بجيش نابليون في غابة عزون، إذ تقول أحد المرويات إنهم أحرقوا الجيش بالغابة فألحقوا به الهزيمة، ولذا سميت نابلس وما حولها بـ"جبل النار".
ونجد النار وقصصها حاضرة في معتقداتنا عن الجن وطرد الأرواح وردَّ السحر، وخرافات الأجداد القديمة عن الأماكن المهجورة، وحتى في بعض المعتقدات البسيطة مثل تخويف الأطفال لأجل منعهم من اللعب فيها، حيث زعموا أن الطفل الذي يلعب بعيدان النار المشتعلة عند الغروب سيبول على نفسه وهو نائم! وكل هذه المرويات والخرافات والحكايات هي نتاج العلاقة الطويلة مع النار عبر الزمن.
اقرأ/ي أيضًا: