23-أكتوبر-2017

لم يكن مستغربًا أن يصِم مُخرج مسرحية "دفتر كشكول" بهذه السمة، لما يراه في حياة ذوي الإعاقة في قطاع غزة، بين الرؤية الرسمية والواقع الاجتماعي، إذ تُشكّل مزيجًا من "الضياع"؛ وصولاً إلى تصنيف مواطنتهم في الدرجة الثانية.

فقد حاول المُخرج عبد الفتاح شحادة خلال عرض مسرحيته في غزة خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر 2017، الاستعانة بالتعابير الجسدية الانفعالية عبر إيجاد قوتين متضادتين تتمثلان في شخصيتين حملتا اسميْن مستعاريْن: "طموح" و"إحباط". وقد حاولت كلتا القوتين إقناع الرضيع "مسعود" (من ذوي الإعاقة) الذي أبصر النور للتو إعلان الولاء لأحدهما.

في مسرحية "دفتر كشكول" تحاول شخصيتين تحملان اسمي "طموح" و"إحباط" إقناع الرضيع مسعود من ذوي الإعاقة بإعلان الولاء لأحدهما

وتبذل شخصية "إحباط" جهدًا شفويًا هائلاً في إقناع مسعود بالتبعية لها، باعتباره حقق شرطين يُمكّنانِه من التعلّق بتلك الشخصية السلبية؛ أولهما أنه "معاق" وثانيًا أنه أبصر النور في غزة المليئة بالأزمات.

اقرأ/ي أيضًا: في مؤسسات غزة.. "ذوات الإعاقة" للاستغلال فقط

لكن الرضيع ينجح في تكوين معتقد أن الإحباط والطموح مجرد فكرتين يمكن للإنسان تبني إحداهما أو التغلب على إحداهما، خصوصًا حينما يُدرك أن القوة الأولى مجرد أوهام تحاول قوة ما (قد تكون أفرادًا أو مجتمعًا أو نظامًا سياسيًا) التأثير على شخصية ذو الإعاقة في أنه لن ينعم بمستقبل آمن.

ثم ينتقل المخرج لعرض مشهد إثبات ميلاد ذلك الطفل عبر حضور شخصيتين تُمثلان الدولة، لمباركة أم "مسعود" ومنح طفلها شهادة ميلاد مواطن من الدرجة الثانية، لكن تلك الأم تحاول تهدئة روع طفلها الذي حاول جاهدًا رفض تلك "المنحة"، إلا أنها بجهلها وطبيعة بيئتها الاجتماعية المتمثلة بـ"تقديس" كل ما هو رسمي تمكنت من لجم معارضة طفلها وإقناعه بقبول تلك الشهادة الناقصة. 

مهام شخوص "الدولة" لم تنتهِ عند ذلك الحد؛ خصوصًا وأن مسعود وأمه أُلهما بضرورة رفض تلك "المواطنة الناقصة" عبر تنظيم حملات حشد ومناصرة لنيل حقه كاملاً، لكن تلك الشخوص أقنعته بضرورة إخضاعه لجلسة "رُقية دخانية" لرقيته من تلك الحملات، ولحشو عقله بتمتمات تصنع منه مواطنًا مُواليًا للدولة، سواءً نال حقوقه أو لا.

مسرحية "دفتر كشكول": تمنح الدولة مسعود شهادة مواطنة من الدرجة الثانية، وترقيه حتى لا يحتج عليها

وعلى الصعيد المجتمعي، حاولت الجارة "الشامتة" إقناع الأم بضرورة إخفاء "مسعود" في غرفة معزولة أو حتى تحت السرير، حتى لا يعزف الباحثون عن الزواج من التقدم لشقيقات مسعود المعافيات، كون إعاقته مثيرة للاشمئزاز ويجب إبعاده عن المشهد كُليًّا.

وحتى إدارة المدرسة لم تقبل بإدماجه مع بقية الطلاب المعافين، حين تهرّب مدير المدرسة من قبوله بدعوى أن الصفوف مكدسة ولا مكان لمسعود.

لكن ضيق الحال الذي ألّم بالطفل البائس وبُطلان مفعول "رُقية" الدولة، دفعاه إلى كتابة مطالبه العادلة على لفافة ورق "تواليت" على طريقة "برايل" الخاصة بفاقدي البصر، إلا أن جيرانه ومجتمعه والجهات الرسمية لم تفهم تلك الرسالة سوى أنها مجرد لُفافة مكانها المرحاض.

معاناة مسعود وأقرانه لم تكن –وفق رؤية المخرج- تنتهي عند الدولة أو الجيران المحيطين؛ فالنعل البلاستيكي في منازل ذوي الإعاقة كان مصدر خوف لهم. فظهور ذلك النعل في أحد المشاهد عرّفه مسعود مذعورًا أنه المسؤول عن طباعة كدمات زرقاء على جسده بفعل العنف الذي يتلقاه القاصرون عقليًا من عائلاتهم.

وفي المشهد الأخير، يبدو أن عواطف "مسعود" تحركت عندما أصبح يافعًا، إذ تحاول العروس المنتظرة "دودو" إقناعه بالزواج منها، ورغم تقبلها أن عريسها قد يكون شابًا مفلسًا وعاطلاً عن العمل ومشغولاً بخدمة أشقائه العشرة، لكن ذلك لم يكن ذلك عائقًا أمام حبها له، إلا أنها سرعان ما استشاطت غيظًا وتراجعت عن حبها له فور علمها أنه "معاق".

حقوق ذوي الإعاقة هي حدث المسرحية الأبرز، إذ يبقى الحدث المسرحي محمولاً باتجاه رسم صورة لهؤلاء الأشخاص من خلال حالة الالتفات البصري المتكرر من الممثلين، والمعبر عن الضياع الذي تم ابتداعه بشكل ديناميكي.

يعيش في قطاع غزة 44 ألف مواطن ذوي إعاقة، ويشكلون 2.2% من نسبة المواطنين هناك

النص المسرحي منح مساحةً للمشاهد لقراءة وقائع تلك الشخصيات من خلال وعيه الخاص، وما يرويه الجيران، ومدير المدرسة وممثلو الدولة والعروس.

كما تمكّن ممثلو العمل المسرحي من توظيف الجسد لأداء الكثير من الانفعالات الحسية والحركية، مستعينين بأدوات مساندة عززت المشاهد، مثل العكاز، ولفافة المرحاض، ومهد الرضيع، وشهادة الميلاد المنقوصة.

المخرج نجح بإضفاء موسيقى فنية مصاحبة للعمل، مثلت جزءًا من الحدث في كثير من مشاهد المسرحية التي استمرت لـ50 دقيقة. وإضافة للنص المسرحي في أوقات أخرى، فالموسيقى خدمت الجو المسرحي لصالح بناء صورة فنية مسرحية واعية.

يشار إلى أن عدد المواطنين ذوي الإعاقة في قطاع غزة يقارب 44 ألف شخصًا، أي 2.2% من إجمالي السكان البالغ عددهم مليوني نسمة، وفقًا لورقة حقائق أصدرتها شبكة المنظمات الأهلية مطلع شهر آب/أغسطس 2017.


اقرأ/ي أيضًا: 

قصار القامة في غزة: صناعة الضحك تخفي أوجاعًا

"عشر سنين" يعيد السينما إلى غزة بعد سنوات عجاف

"محظوظ السابع عشر".. قبضة الدولة وذعر الشعب