18-فبراير-2019

تستكمل هذه المقالة مراجعة كتاب "رحلة لم تكتمل، محطات على طريق المقاومة"، لمؤلفه محمد يوسف (أبو علاء منصور) الذي صدر عن سلسلة ذاكرة فلسطين ضمن إصدارات مشروع دراسة وتوثيق القضية الفلسطينية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. 

تطرقت المراجعة الأولى للقسم الأول من كتاب أبو علاء منصور، وتستكمل هذه المراجعة القسم الثاني من الكتاب الذي أتى بعنوان "اصطادوا الصقر". 


يقدم أبو علاء منصور في هذا القسم ذكرياته عن انتفاضة الأقصى، من لحظة الانطلاق إلى لحظة النهاية، وبعيدًا عن الإشكاليات التي يعاني منها النص وأبرزها التشظي والتشتت المزعج، الذي كان يمكن تجاوزه بوضع مسودة النص بيد محرر مختص في هذا الصنف من الأدبيات، يسهم في ضبطه وتجويده ليخرج بمعلومات أوفى وتوثيق أدق وسياق موضوعي وزمني واضح، إلا أن النص في صورته الحالية يسهم في الإضاءة على صفحة مسكوت عنها لغاية الآن من تاريخ القضية الفلسطينية الراهن، ويؤكد الحاجة للاهتمام بالتأريخ للزمن الراهن.

  يقدم أبو علاء منصور ذكرياته عن انتفاضة الأقصى، من لحظة الانطلاق إلى لحظة النهاية، ويضيء على صفحة مسكوت عنها من تاريخ القضية الفلسطينية الراهن 

تحدث أبو علاء في النص عن تجربته في انتفاضة الأقصى بوصفه عضوًا في اللجنة الحركية العليا لحركة فتح، التي أدارت دفة التنظيم خلال السنوات السابقة لحدث الانتفاضة، وكان لبعض قادتها وعلى رأسهم أمين سرها الأول مروان البرغوثي أثر كبير في هذا الحدث منذ لحظته الأولى. كما شغل أبو علاء منصور خلال هذه الفترة أمانة سر حركة فتح في منطقة رام الله، وهي إحدى مناطق المواجهة الأبرز مع الاحتلال خلال هذه الفترة، وكذلك مستقر قيادة السلطة الفلسطينية، وجزء أساسي من قيادة فتح. 

يضم النص الكثير من القضايا التي تلفت اهتمام الباحث، خصوصًا المهتم بتأريخ الزمن الراهن، وتضيء كذلك على بعض إشكالات تجاوز التأريخ لهذا الزمن الآن. من أبرز هذه القضايا معنى الانتفاضة لدى حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، إذ يقدّم أبو علاء منصور في سرده إشارات إلى وجود اختلاف مركزي على معنى الانتفاضة، حدودها ودورها المفترض، ورغم وجود ملامح لتعدد التيارات في هذا الجانب، إلا أن أبرز تيارين في سرد أبو العلاء، تيار ياسر عرفات مقابل تيار مروان البرغوثي.

يشير أبو علاء بشكل غير مباشر إلى أن تيار مروان البرغوثي، تيار سابق للانتفاضة، تمأسس في الصراع الداخلي قبل أن يبرز في صدارة فعل الانتفاضة، فبعد عودة البرغوثي المبعد من الخارج مع قدوم السلطة الفلسطينية وتسلمه منصب أمين سرّ اللجنة الحركية العليا لحركة فتح، عمل جاهدًا للإبقاء على جمرة الروح الفدائية الفتحاوية، بتعبير أبو العلاء، وكان البرغوثي ورفاقه يجاهدون "في معارك شرسة مع الباحثين عن النفوذ من الآتين من الخارج، ومع بعض رفاق دربه القدامى من الداخل، وكان هناك حسد وضغائن"، أبرزت هذه المعارك وجود تيار فتحاوي داخلي، خارج في بعض قراراته وطموحاته عن اللجنة المركزية لحركة فتح، وعن قرار ياسر عرفات بدرجة أولى، فكان السعي لتحجيم اللجنة الحركية العليا، بتشكيل لجنة طوارئ، قدم بعض وجهة نظرها عن هذا الصراع محمد عبد اللطيف في كتابه سنوات القهر []، عملت هذه اللجنة على إحداث انقلاب على مروان البرغوثي أفقده منصبه كأمين سر للجنة الحركية العليا في حزيران/ يونيو 2000.

 ظهر إشكال أساسي في بنية وتوجهات الأجهزة الأمنية يمكن أن يسهم في فهم دورها المتناقض خلال الانتفاضة، فعناصر فتح تمزقوا بين ماضيهم النضالي وواقعهم الراهن 

بالإضافة لهذا التيار الذي بدأت ملامحه التنظيمية بالتشكّل قبيل الانتفاضة، ظهر إشكال أساسي في بنية وتوجهات الأجهزة الأمنية الفلسطينية، يمكن أن يسهم في فهم دورها المتناقض خلال حدث الانتفاضة، فوفقًا لـ "أبو العلاء" في أن عناصر فتح تمزقوا بين ماضيهم النضالي وواقعهم الراهن، خصوصًا وأنه لم تكن ترسخت بعد أي حدود بين الأجهزة الأمنية للسلطة، وبين المؤسسة التنظيمية الفتحاوية. 

مع اندلاع الانتفاضة تمايز موقف التيارين الرئيسيين في فتح اتجاهها، وإن لم يكن لدى أي منهما كما يفترض لقارئ نص أبو العلاء صورة متكاملة لما نريد من الانتفاضة، وكيفية الوصول إليه. لا يورد نص أبو العلاء ما يمكن من خلاله التأريخ للموقف الفتحاوي من أحداث الانتفاضة في أيامها الأولى، ويركز على الخلاف الذي بدأ يظهر بين عرفات من جهة، والتيار الذي عبّر عنه البرغوثي من جهة ثانية، مع تصاعد وتيرة العمليات العسكرية المختلفة ضد الاحتلال، وعلى رأسها العمليات الاستشهادية، ومع تسلم شارون للقرار الصهيوني. 

  عرفات أراد في مرحلة ما إعلان وقف إطلاق النار، لإدراكه عواقب الاستمرار، وهو الموقف الذي لم يدركه نشطاء الميدان وقادتهم الحالمين 

وأساس الخلاف كيفية النظر للموقف آنذاك، فعرفات أراد في مرحلة ما إعلان وقف إطلاق النار، لإدراكه وفقًا لـ "أبو علاء منصور" لعواقب الاستمرار، وهو الموقف الذي لم يدركه نشطاء الميدان وقادتهم الحالمين. أما البرغوثي فأراد أخذ المواجهة إلى أقصاها، وقال بضرورة أن تتحول المقاومة والانتفاضة لخيار فتح، ولأن تصبح محط إجماع الحركة، إذ إن شارون لا يملك مشروعًا سياسيًا ولا إمكانية للوصول لحل نهائي معه، أو حل مؤقت، وهو الطلقة الأخيرة في جعبة الإسرائيليين، والانتفاضة ثورة على الاحتلال كما أنها حركة احتجاج على أداء السلطة، ويلخص أبو علاء هذا التباين في وجهات النظر، فيقول بأن عرفات والبرغوثي اتفقا على أن لا حل سياسيًا مع شارون، لكنهما اختلفا في أن عرفات أراد التهدئة ورأى فيها الحلّ، أما مروان فرآه في التصعيد، وباختصار، وفقًا لأبو علاء، فإن عرفات أراد تفادي السهم، أما مروان فأراد كسره.

سيستمر هذا الخلاف، الذي لم يكن بمقدور أحد السيطرة عليه، فعرفات لم يكن القائد الذي إن أمر أطيع كما في سابق عهده خارج فلسطين، كما أن البرغوثي لم يكن قائد بنية عسكرية منظمة تأتمر بأمر واحد، ولهذا لم يكن من الممكن تنفيذ بعض قرارات عرفات وقادة الأجهزة الأمنية، وأبناء فتح وقادتها، كإعلان الأجنحة العسكرية خارجة عن القانون، أو حل كتائب شهداء الأقصى -وهي القرارات التي ستؤسس لمرحلة الانقلاب على إرث فتح في الانتفاضة بعد استشهاد عرفات- فكما يؤكد منصور أن كتائب الأقصى لم تؤلف بقرار لتحل بقرار، وتشير تجربة البرغوثي وأبو العلاء في التخفي التي سجلها أبو علاء أنه شخصيًا ومعظم كادر فتح لم يكونوا أيضًا مستعدين لخيار المواجهة النهائي، سواء كان على المستوى الشخصي أو على المستوى العام.

مركزية قرار المقاومة المسلحة في الانتفاضة، القضية الثانية التي أبرزها نص أبو العلاء، إذ يتحدث أبو علاء منصور نافيًا وجود هيكل نظامي لكتائب شهداء الأقصى، التي لم تولد بقرار فوقي، ولم يجر تبنيها رسميًا من حركة فتح، وأسهمت طبيعة النشأة وقسوة المعركة، في استمرارها بدون هذا البناء، وبقيت قائمة على المبادرات الفردية والاجتهادات الشخصية، وكل من لديه همة في فتح، أو من خارج الفصائل، حسب نفسه تلقائيًا عليها، لكن إن كان الأمر كذلك فما دور أشخاص كالبرغوثي؟ يرد أبو العلاء ضمنًا بأن البرغوثي لم يكن إلا حاضنة معنوية للكتائب، وتواصل مع نشطائها من خلال ذراعه القوية أحمد الفرنسي.

حدود المركزي ولا مركزي تحتاج لدراسة وبحث، سواء كان الأمر متعلقًا بحركة فتح ونشاطها، أو ببقية الفصائل الفلسطينية، إذ هل يمكن تعميم حديث أبو علاء منصور عن كتائب شهداء الأقصى، على كافة مواقع نشاط الكتائب، هل وجد إلى جانب المبادرات الفردية نشاط مركزي موجه، وإن لم يكن شاملاً، وهل وجد في بعض البقع الجغرافية نشاط مركزي، لم يتواجد قرين له في مناطق أخرى، وماذا عن دور القيادات الفاعلة كمروان البرغوثي ومروان زلوم وثابت ثابت ونايف أبو شرخ وغيرهم، ألا يعتبر دور هؤلاء في الفعل العسكري واحتضانه بطريقة ما دور مركزي، والسؤال أيضًا ما هو دور ياسر عرفات في الفعل العسكري للانتفاضة هل بقي موقفه ثابتًا طوال فترة الانتفاضة، المطالبة بوقف إطلاق النار والهدنة، أم أن الأمر اقتصر على مرحلة تاريخية دون غيرها، والاسئلة لا تنتهي هنا.

  النص يعاني من الدقة في توثيق بعض العمليات ونتائجها   

قضية أخرى يثيرها نص أبو علاء منصور متعلقة بتوثيق حدث الانتفاضة، فالنص يعاني من الدقة في توثيق بعض العمليات ونتائجها كعملية بارك وعملية حاجز سردا التي نفذها جاسر البرغوثي ورفاقه، وهم من نشطاء كتائب القسام، فيما اعتبرها أبو علاء منصور أولى العمليات الفتحاوية في استهداف الحواجز، ويحسم أبو علاء منصور الجهة المسؤولة عن عملية عين عريك، وبأن المنفذين انتميا لكتائب شهداء الأقصى، وأن التراجع عن تبني العملية كان خلفه رغبة فتحاوية بتجاوز الضغوطات المرتبطة بتبني العملية، لكن بكل تأكيد فإن مصادر أولية أخرى تشكك في هذا الحسم. لكن طرح هذه القضية يدفع للاهتمام بسياسة تبني العمليات لدى الفصائل الفلسطينية المختلفة، ودوافع التبني/ النفي للعمليات.

ختامًا النص في قسمه الثاني فرصة للتأمل في ضرورة التأريخ للحدث الراهن، وكذلك فرصة للتأكيد على ضرورة السعي لحفظ مصادر هذا التاريخ، التي أبرز أبو علاء بعضها، كاليوميات التي كتبت لحظة الحدث. ولعل نص أبو العلاء يدفع آخرين لتوثيق تجربتهم حفظًا لذكرهم وذكر مرحلة مهمة من تاريخ القضية الفلسطينية، وإسهامًا في توفير مصادر أولية لباحثي المرحلة.


اقرأ/ي أيضًا: 

معركة واد القلط.. الثورة تصطاد أحد "أبطال إسرائيل"

صور منهوبة تُعرض في القدس لأوّل مرة

معركة الواد الأحمر.. شهداء نُسيت أسماؤهم

عائد إلى "ديمونا": أبو جهاد في ذكرى استشهاده الثلاثين