ولد خليل الوزير أبو جهاد في مدينة الرملة سنة 1936، وانشغل أثناء نشاطه التنظيمي والعسكري في قيادة حركة "فتح" في ملف مفاعل "ديمونا"، وحسب معلومات أبو جهاد فإنّ مفاعل "ديمونا" وُلد في جنوب فلسطين في النقب بالتحديد، نتيجة علاقة سريّة بين إسرائيل وفرنسا، وقد أُخفيت هذه العلاقة الحميمية عن أصدقاء الطرفين، وهذا ما صعّب اكتشاف أمر هذه المولودة، لنحو 7 سنوات.
بعد 40 يومًا فقط من عمليّة "ديمونا" التي أشرف عليها "أبو جهاد"؛ اغتال الموساد الإسرائيليّ القائد خليل الوزير في تونس
لقد كان أبو جهاد يكلّف كل عضو جديد في التنظيم بعدة مهام، بما في ذلك جمع أكبر قدر من المعلومات الدقيقة عن الأهداف الإسرائيلية في المحيط الذي يعيش فيه، وقد كلّف طلائع تنظيمه في منطقة بئر السبع والنقب بمتابعة المدينة الصهيونية الجديدة التي أُقيمت عام 1955 في قضاء بئر السبع، على أراضي قبيلة "العزازمة" في النقب الأوسط، وسميت "ديمونا" وهو اسم توراتي قديم.
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | يعلون: هكذا قتلنا "أبو جهاد"
ما أثار حفيظة أبو جهاد هو توارد معلومات إلى مكتبه تفيد أنّ المدينة مغلقة في وجه الزوار اليهود والعرب حتى أعضاء الكنيست لم يكن مسموحًا لهم بزيارة "ديمونا"، أي أنها كانت منطقة مغلقة أمنيًا. وهذا ما حدا بخليل الوزير أن يفتح ملفًا خاصًا لـ "ديمونا" في مكتبه. في حينه كان ديفيد بن غوريون يروّج أنّ تلك المباني المشيدة هي مصانع للنسيج ، لكن الأمر اكتشف في 21 كانون أول/ ديسمبر عام 1960، وبعدها اعترفت إسرائيل رسميًا بأنّ "ديمونا" مفاعل نووي لأغراض سلمية.
كانت فكرة إنشاء مفاعل نووي قديمة لدى "حاييم وايزمن" قبل نكبة فلسطين، لكن ساهمت عوامل أخرى في إنشاء المفاعل النووي بعد أقل من سبع سنوات على النكبة، وتمثلت تلك العوامل في اكتشاف اليورانيوم بنسب صغيرة في رواسب الفوسفات الموجودة بوفرة في منطقة النقب؛ لكن العامل الأهم هو اكتشاف علمي سجله العالم اليهودي "دوستروفسكي" توصل من خلال ذلك الاكتشاف إلى عملية إنتاج الماء الثقيل بطريقة جديدة ورخيصة كسرت احكتار النرويج لإنتاج تلك المادة الإستراتيجية الضرورية لصناعة القنابل النووية، أدى هذا الاكتشاف إلى تحول العلاقات الفرنسية الإسرائيلية إلى ما هو أكبر من الإعجاب وأعمق من الصداقة.
وكان "لشمعون بيريز" زعيم حزب العمل آنذاك، دور في عقد صفقة تاريخية عام 1953 مع فرنسا التي حصلت بموجبها على براءة الاختراع الإسرائيلي لطريقة إنتاج الماء الثقيل مقابل اتفاق تعاون سري في حقل الذرة؛ وكانت "ديمونا" مخرجات هذه العلاقة السرية.
وقد نجحت الشبكة اليهودية العالمية عام 1968 في تهريب 200 طن يورانيوم من أوروبا إلى ديمونا، وفي نفس العام أعطى "موشيه ديان" وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك أوامر بفصل البلوتنيوم من أجل إنتاج قنبلة نووية دون الرجوع إلى "ليفي أشكول" رئيس "الدولة الإسرائيلية" آنذاك.
اقرأ/ي أيضًا: مذكرات بيريز: عن النووي وعمرو موسى والشارب المستعار
لقد اعتمد أبو جهاد على تعميم ثلاثة أشكال من المقاومة إبان الانتفاضة الشعبية 1987: توسيع دائرة المقاومة الشعبية العفوية، اعتماد مفارز من الشباب اللذين شكلوا القوات الضاربة، وتطوير الدوريات الفدائية لضرب الأهداف العسكرية الإسرائيلية التي تقع خارج جغرافيا الانتفاضة، وفي الأسلوب الأخير التقط أبو جهاد ملف ديمونا من أرشيفه ووضعه على مكتبه، واختار من بين عشرات الفدائيين والكوادر الذين يعملون معه شرف الطيبي ليعهد له بملف "ديمونا" وهذا يعني تحول الملف (معلومات وبيانات) إلى هدف (خطة عسكرية جاهزة للتطبيق).
أفشى "مردخاي فعنونو" ( يهودي عربي من مراكش اشتغل بعلم الذرة في ديمونا) سرّ المفاعل النووي عام 1985 بعد خروجه من إسرائيل واستقراره في استراليا (لاحقًا خطفه الموساد وحكم في إسرائيل وسجن). هذا الاكتشاف في أرشيف أبو جهاد في ملف "ديمونا" جعل بصيرة شرف الطيبي تهدي إلى الشخص الذي يحل لغز "ديمونا" وهو حمد العزازمة "البدوي الأسمر النحيف اليابس فارع الطول ذو الصوت الأجش، الذي كان يفاخر الجميع بأصله البدوي العربي وسرعته الفائقة في المشي والعدو"، وقد ارتحل حمد من قرية كرنب بعد عام 1955 إلى بئر السبع، وتوطدت علاقتهما من خلال السهر في ليالي الصيف في غزة لدى الطيبي، واتسم حمد العزازمة في حبه للمشي والهرولة والعدو.
عثر حمد العزازمة على حصان طروادة/ الثغرة لدخول الفرسان الثلاثة إلى قلب ديمونا بإسقاط كل الإجراءات الأمنية والإلكترونية الإسرائيلية كان ذلك الحصان الأتوبيس "الفولفو" زرقاء اللون
كانت "ديمونا" محصنة في محيط دائرة قطرها 50 كم، ومحصنة بكل أنواع الحوجز المادية والإلكترونية والأرضية والجوية أي أن الطريق إلى "ديمونا" معقد جدًا؛ لكن عثر حمد العزازمة على حصان طروادة/ الثغرة لدخول الفرسان الثلاثة إلى قلب ديمونا بإسقاط كل الإجراءات الأمنية والإلكترونية الإسرائيلية كان ذلك الحصان الأتوبيس "الفولفو" زرقاء اللون الذي يحمل كل صباح الخبراء والفنيين العاملين في المفاعل في رحلتهم اليومية من بئر السبع إلى "ديمونا"، راقب حمد العزازمة بعزم الأتوبيس لمدة أسبوع كامل، وقد تيقن من ثبات مواعيد الحركة والمغادرة دون تقدم أو تأخر، وكان هناك سيارة جيب عسكرية إسرائيلية ترافق الأتوبيس، ويتأكد الأمن الإسرائيلي من هوية الشخصيات الموجودة فيه. كانت خطة أبو جهاد بسيطة وهي تتمثل في قيام مجموعة فدائية خاصة تتكون من ثلاثة مقاتلين، ودليل/ خبير واحد يقوم بتأمينهم إلى أقرب نقطة يمكن منها السيطرة على أتوبيس المفاعل النووي والسيطرة على السيارة في حالة صالحة للحركة، والإنطلاق بسرعة قصوى إلى قلب "ديمونا" وعند تعدي الحواجز الأمنية كافة، وهي ستة حواجز، وبعد الوصول إلى موقف الأتوبيس مع الرهائن (الخبراء والفنيين) العاملين في ديمونا يبدأ على الفور عملية طلب مندوبي الصليب الأحمر لتأمين الإفراج عن 9 آلاف أسير فلسطيني اعتقلتهم إسرائيل منذ بداية الانتفاضة في حينه.
في الإعداد للعملية، ترجل أحد الفرسان الثلاثة نتيجة التوتر وقلة النوم، وسدّ مكانه مدرب المجموعة والمشرف عليها "عبد الله عبد المجيد محمد كلاب" قائد مجموعة "ديمونا" والمُهجّر من قرية بشيت قضاء الرملة، وقد التقى أبو جهاد في الشتات وحصل على دورة عسكرية، وانطبعت صورة أبو جهاد كالوشم في ذاكرة عبد الله، وثاني الفرسان هو "محمد عبد القادر محمد عيسى" المهجّر من قرية الفالوجا، وكان الساعد الأيمن لعبد الله كلاب في تنفيذ المهمات الخاصة، أما الفارس الثالث "محمد خليل صالح الحنفي" لاجئ من أسدود وهو شاعر المدرسة والمخيم (مخيم رفح)، وكانت الإعدادات تقترب من ساعة صفر الانطلاق وجاء رسول أبو جهاد بتاريخ 2/3/1988 ليبلغهم تحيات شرف الطيبي وقائدهم أبو جهاد، وكانت ساعة الصفر منتصف الليلة من ذلك اليوم/ التاريخ، كان على الفرسان الثلاثة عبد الله والمحمدين إقتفاء أثر الدليل/ الخبير حمد العزازمة وكانت المجموعة مسلحة بثلاث بنادق رشاشة و30 قنبلة يدوية وحقيبة تحتوي 450 رصاصة.
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | تفاصيل ظلّت مخفيّة عن عمليّة "سافوي"
مع مغيب شمس يوم 6 آذار/ نيسان 1988 حطّت المجموعة الفدائية في نفحة، ووقف عبد الله وألقى التحية وروى كحكواتي قصة نفحة، ومع إشراقة قرص الشمس الخجول؛ راجع الفدائيون الثلاثة الخطة وقرأت الفاتحة وتعاهدوا على النصر أو الشهادة، وفي اليوم التالي هاجموا سيارة جيب عسكري إسرائيلي بداخلها أربعة جنود هربوا من الجيب، وقاد الفدائيون سيارة الجيب العسكرية (رينو-4) إلى طريق عرعر- ديمونا لملاقاة أتوبيس الفولفو الزرقاء التي تقل الخبراء إلى "ديمونا"، وكانوا يسابقون الزمن من أجل الوصول في الوقت المحدد، وقد تخطّوا حاجزًا عسكريًا قرب قرية تل الرحمة المصهينة باسم "يروحام"، وترجلوا بعدها واقتحموا حاجز عرعر، ونجوا من محاولة دهسهم من قبل سائق شاحنة إسرائيلي، عاجله عبد الله بصلية من الرصاص، ما أوقف الشاحنة وحجز الأتوبيس الأزرق خلفها، ثم سيطر الفدائيون على الأتوبيس، وانطلقوا وفق خطة أبو جهاد إلى ديمونا الهدف.
حلقت المروحيات في سماء المنطقة وبدأت أفواج سيارات الجيش والشرطة وحرس الحدود والإسعاف تتراكض خلف الأتوبيس الأزرق، وما تبقى زمانيًا ومكانيًا للوصول إلى الهدف 7 كيلومترات أخيرة إلى "ديمونا"، لكن أطلق جنود المظلية الإسرائيلية الذين هبطوا من المروحيات الرصاص على إطارات الأتوبيس الأزرق، وتحولت المهرة الزرقاء إلى فريسة كسيحة، طلب الفدائيون الذين احتجزوا 9 رهائن من خبراء ديمونا، الصليب الأحمر من أجل التفاوض، لكن قائد القوة الميدانية ماطل في الأمر واستغرق الوقت 45 دقيقة. لم تتوقف المروحيات والسيارات العسكرية عن الوصول للمكان وإفراغ حمولتها من الجنود في الموقع وبالقرب من الهدف، وكان الفدائيون تحت عدسات القناصة الإسرائيلين في الأتوبيس الأزرق، وكانت المماطلة حتى يصل وزير "الدفاع الإسرائيلي إسحاق رابين" ورئيس هيئة الأركان "دان شومرون" وقائد المنطقة الجنوبية "يتسحاق مردخاي".
ماطل قائد الحملة الإسرائيلية في التفاوض ورفض إحضار مندوب الصليب الأحمر من القدس، وخاضوا حرب استنزاف في الوقت حتى انهمرت الرصاصات على الفدائيين كالمطر، وارتقوا شهداء في العاشرة والنصف من صباح 7/3/1988، وكان هناك ثلاثة قتلى إسرائيليين من داخل الأتوبيس.
عندما انتهتت مراسم دفن الجثث الإسرائيلية كانت الانتفاضة تختم يومها التسعين، وقال شامير "إن الذين يقفون وراء عملية ديمونا هم الجهة نفسها التي تثير التحريض في المناطق"؛ في إشارة إلى دور أبو جهاد الوزير في التخطيط للعملية والإشراف على تنفيذها. وفي منتصف شهر آذار/ مارس من نفس العام، جرى المصادقة على اغتيال أبو جهاد الذي استشهد في تونس بتاريخ 16 نيسان/ ابريل 1988، أي بعد 40 يومًا من عملية ديمونا.
سلام على الشهداء عبد الله كلاب، والمحمدين: محمد الحنفي، ومحمد عيسى فرسان عملية ديمونا. وسلام على أمير الشهداء خليل الوزير أبو جهاد في ذكرى استشهاده الثلاثين.
اقرأ/ي أيضًا:
نفايات "ديمونا".. قاتل صامت في الخليل