10-يوليو-2017

صورة تعبيريّة/ getty

عندما ظهر تقرير القناة الإسرائيليّة الثانية حول مدينة روابي، كانت مواقع التواصل الاجتماعي بفاعليها الفلسطينيين، جاهزة لتلقي المضمون الصوري لهذا التقرير، ومستعدة للتفاعل الصوري أيضًا، مع هذا التقرير في مشهد يلخص الحالة الفلسطينيّة بأكملها، وهي أيضًا حالة عالميّة، وهي الحالة التي تستبدل فيها العلاقات الإنسانية الواقعية، بعلاقات الناس بالأشياء والسلع والصورة.

حفرٌ في الوعي الفردي للإنسان لعزله عن محيطه وبيئته الإنسانيّة والطبيعيّة؛ في روابي يتمثّل هذا النموج بأقبح صوره وأكثرها كمالًا

هذا الاستبدال يحدث ضمن ميكانية آليّة في داخل "المشهد الكلّي"، الذي يحتوي فيما يحتويه على الإنسان والسلعة في قالب واحد، في علاقة واحدة، ويحول البشر من أفراد فاعلين على نطاق الجماعة الأمة المتخيّلة، إلى مجموعة من "الأفراد المعزولين سوية"، على حدّ وصف أحد الباحثين.  

يقوم النموذج الرأسمالي بالأساس على الصورة المذهلة التي تحفر في الوعي الفردي ضرورة السلعة. العلاقات الإنسانيّة كلها تتعرض للاغتراب، علاقة الإنسان بنفسه، علاقة الإنسان بالآخر، علاقة الإنسان بالهوية الجمعيّة، إلى أن تستبدل هذه العلاقات كلها بعلاقة واحدة وحيدة، وهي علاقة الإنسان بالسّلعة – الصورة. الصورة المهيمنة المذهلة، هي التي تحفر نفسها في الوعي الفردي للإنسان لتعزله عن محيطه وبيئته الإنسانيّة والطبيعيّة. في روابي يتمثل هذا النموج بأقبح صوره وأكثرها كمالًا. يتركز التقرير الإسرائيلي كلّه حول قيمة واحدة وهي قيمة السلعة، ومن ثم تشكّل قيمة السلعة هذه قيمة الإنسان نفسه ومن ثم يطلق وصف "الفلسطينيون الحقيقيون"، على ساكني هذه المدينة وروّادها. يبدأ النموذج المشهدي الرأسمالي، بتحويل البشر عن طريق الإستهلاك إلى ممثلين يكمل كل منهم دوره في دائرة الإنتاج وعملية الإنتاج والاستهلاك. ممثلين بلا هوية، بلا اسم، بلا مهمة، بلا قيم أخلاقيّة وبلا ارتباطات وطنية ومجتمعية تعيقهم عن القيام بالأدوار المناطة بهم في هذه السلسلة الرأسمالية. 

يتركز التقرير الإسرائيلي حول قيمة السلعة، وهي ما ستشكّل لاحقًا قيمة الإنسان نفسه، ومن ثم يطلق وصف "الفلسطينيون الحقيقيون"، على ساكني هذه المدينة وروّادها!

ولا تكتفي الصورة المذهلة في روابي بالاكتفاء بنفسها في حدود المكان، الصورة نفسها مصنوعة لكي يتم تصديرها، لتهيمن فيما بعد على الوعي الكليّ للمجتمع. روابي بهذه الطريقة، هي محطة من محطات إعادة إنتاج الوعي الفلسطيني. وحتى نستطيع رسم الصورة، علينا أن نفترض نموذجًا توضيحيًا ولكن متخيّلًا. يدخل الفلسطيني روابي وهو يملك وعيًا مؤلفًا من وعي بالزمان وبالمكان شديديّ الوضوح، يملك انتماءات قبلية، عائلية ومجتمعية، لديه همومه وتطلعاته نحو المستقبل وشكل هذا المستقبل، وكل مكوّنات الوعي هذه تهيمن عليها حقيقة الصّراع مع المستعمِر الصهيوني. يدخل هذا الفلسطيني في المدينة، في مركز المدينة التجاري، في طريقة الحياة، التي تقوم على إنتاج الفراغ الإنساني ومن ثم ملئه بالسَّلعة والصورة المذهلة الصّامة للوعي الإنساني. في هذه العملية، يتم تفريغ الوعي من محتوياته، وبدلًا من الزمن المستقيم الذي يوازي تاريخ الصراع نفسه، يتبدل الزمن إلى زمن دائري فارغ، يحكمه الشعور بالعدميّة والفراغ، وتتبدل همومه الإنسانية الواقعية والحقيقية، إلى هموم فارغة وذات قيم فارغة، يتم تعبئتها عن طريق السلعة ودروس التنمية البشرية في الطاقة الإيجابية وحب الحياة – ولكن ليس أية حياة، بل الحياة الصورية الرقميّة. بهذه الطريقة يتم إنتاج وعي زائف له زمن دائري فارغ مشغول الذهن بتعبئة أوقات الفراغ الإنسانية هذه. وبهذه الطريقة ينسلخ الفلسطيني إلى مسخ إنسان، بلا علاقات إنسانية واقعية، وبلا ارتباطات لا وطنية ولا مجتمعية – فيما عدا تلك الخاصة بالضوضاء في المدينة وضرورة زرع المزيد من الخضرة المصطنعة. وببساطة، يقوده همّ واحد وحيد، وهو تتبع مسار السلعة ومدى سطوع المشهد وتحسس متعة وإثارة الجلوس تحت ضوء القمر ليلًا وتصوير هذا المشهد قبل وبعد وخلال الجلوس فيه.

الانكفاء على الذات وقلق الخصاء

في رام الله، التي نالت حظّها من النقد الموجه للنيوليبرالية الجديدة وخطط السلام الاقتصادي فيما مضى وما زالت. كانت ردّة الفعل على مواقع التواصل الاجتماعي على تقرير روابي للقناة الإسرائيليّة الثانية، تتلخص في نقطة واحدة، وهي الانكفاء على الذات الناتج عن الخوف من رعب الصورة الواردة في التقرير. بالطبع يعرف الفلسطينيون من قبل، أن ثمة فئات تستطيع شراء جاكيت أو قميص بمبالغ باهظة، وهذه الفئات، اقتصرت في رام الله على تحديدها جغرافيًا ببعض الأحياء كالطيرة والماصيون وغيرها من أحياء رام الله التي يسكنها الأثرياء. إلّا أنّ ما عرضه التقرير عن روابي، ذهب أبعد من مجرد فئات.

تتبدل هموم الإنسان الواقعية والحقيقية، إلى هموم فارغة وذات قيم فارغة، يتم تعبئتها عن طريق السلعة ودروس التنمية البشرية

إن فاعلي التقرير الإسرائيلي، فلسطينيو روابي، لم يقوموا فقط بشراء جاكيت بمبلغ يساوي معاش موظف حكومي في رام الله، وأيضًا، لم يقوموا فقط بالعيش في حي ثريّ راق. هم ببساطة، تحدَّثوا العبرية بطلاقة خلال تصويرهم بكاميرا إسرائيلية، وآخرون ذهبوا إلى تأكيد أن هؤلاء الساكنين في روابي هم الفلسطينيون الحقيقيون، وآخرون أكدوا أن الفلسطينيين مستعدين للاقتراض من أجل هذا الجاكيت، وآخرون كانوا فقط يشربون النرجيلة على مرأى ومسمع من صحفي إسرائيلي.

دائماً كان هناك صراع طبقي مرئي وغير مرئي في الضفة الغربية، لكنّه أبدًا لم يأخذ هذه الحدّة في الظهور وفي الالتحام فوق ذلك، بنهج سياسي تطبيعي استسلامي كالنموذج الذي تم تقديمه في روابي. قدمت روابي المدينة خطابًا فلسطينيًا كاملًا متكاملًا من إنتاج شرطة أوسلو المتحالفة مع البرجوازية الفلسطينية فاحشة الثراء والمنظومة الاستعمارية الصهيونية. وما يجعل من هذا الخطاب يحدث ذعرًا وجوديًا للهوية الفلسطينية ويصيبها في مقتل، أنّ هذا الخطاب على خلاف نماذجه السابقة، لم يقدّم من قبل مجموعة أمنيّة وحسب، أو شركات ورجال أعمال، بل هو ينتج من خلال مدينة بأكملها، آلاف البشر من الفلسطينيين، الذين يعيشون ويدركون هذا الواقع ويشاركون في صنعه ولا ينقصهم سوى أن يرفعوا العلم الإسرائيلي بجانب العلم الفلسطيني كي يؤكدوا صدق نواياهم تجاه المستعمِر.

وما يثير قلق الخصاء فلسطينيًا على مواقع التواصل الاجتماعي، هو هذا الأمر تحديدًا. الخوف من الاندثار، اندثار الهوية، اندثار التضحيات، اندثار القيم نفسها والأخلاق، اندثار مكوّنات الهوية بأكملها، اندثار شعب بأكمله في مدن كروابي. روابي المدينة، بتحالفها مع السلطة وامتلاكها لقوّة الاقتصاد ومشهدها الاستعراضي المبهر للكثير من الفلسطينيين، هي الرعب الذي يعيشه كثير من الفلسطينيين من شكل المستقبل المقبل. هذا التماهي غير المسبوق هو ما يجعل من قلق الخصاء – الاندثار، يفرط في استعراض ذكورته في مواجهة تقرير روابي على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي والبدء بتحديد من هو الفلسطيني ومن هو غير الفلسطيني. ويسهم في الانكفاء على الذات من خلال التعلق بالأبطال وتقديسهم، وتقديس رجولتهم في مواجهة مشهد فئة "ضالة" من الذين لا يمثلون الهوية الفلسطينية بشيء بحسب هوس التحديد والتصنيف.

ويتبدّى خطر الانكفاء على الذات وتحديد من هو الفلسطيني ومن هو غير الفلسطيني، في أنّ التحديد نفسه يشتمل على الإقصاء، والإقصاء يشتمل على الكبت، والكبت يشتمل على العنف. العنف، على سبيل المثال، الذي لوحظ في التعليق على الجدال الأخير حول العمليات الفردية والتهجّم على بعض شخوص المشاركين في هذا الجدال، بوصفهم أيضًا لا يمثّلون الهوية الفلسطينية بشيء.

يكمن خطر الإنكفاء على الذات في أنّه يوجّه العنف إلى الداخل، وذلك ناتج عن تحجّر في أسس الخطاب نفسها. الأسس التي تقوم على النظر إلى الفلسطيني، بوصفه كائنًا ثابتًا تاريخيًا وغير متغير، لا بوصفه كائنًا ديناميًا يخضع لشروط البيئة والتثقيف والتربية. فالإنسان، أي إنسان، لا يولد بهوية ثابتة غير متغيرة، والفلسطيني كذلك، لا يولد فلسطينيًا، بل يكبر ليصبح كذلك. ولكونه كائنًا ديناميًا يخضع لشروط البيئة والتثقيف والتربية، يجب التفريق بين حالة التماهي مع الآخر على أنّها صفة ثابتة طبيعيّة لا تتغيّر، وبين حالة التماهي كمرحلة من مراحل تشكُّل الوعي الإنساني، وعلى أنّها نابعة من قلق الخصاء الخاصّ بالمستعمَر المقهور، وعقد النقص التي تتراكم في نفسه في عالم تقني لا يترك فسحةً للتفكُّر والتأمل، أو حتّى الإحساس بالمهانة والذل. وهذا ليس منحى تبريريًا بقدر ما هو منحى للتأمّل في المشهد كله. وهذا النُّكوص في الحالة الفلسطينية عند البعض، أي تفضيل المسالمة والتماهي حدّ الذوبان على الاندثار، يستلزم منّا النّظر طويلًا في بنية خطاب أوسلو أو غيره من الخطابات المتحالفة معه. وعلى من يعكف على إنتاج الخطابات المضادة لهذا الخطاب، أن يتفكّر طويلًا في بنية خطابه هو أيضًا، لا أن ينكصَ هو نفسه بصورةٍ عكسيّة لينتج خطابًا متحجّرًا يقوم على التمجيد والتقديس من جهة، والتخوين والتحديد الذي يشتمل على الإقصاء وتوجيه العنف المعرفيّ وغيره من أشكال العنف إلى الدّاخل، إلى المجتمع نفسه.


اقرأ/ي أيضًا:

عن "نصب الشهيد".. ما نخفيه وما يخفونه

هرتسيليا حبيبتي.. شعث وبلير ومصائب أخرى!

يحدث تحت أنوفنا.. عن اللجوء الأفريقي إلى إسرائيل