ظاهرة المقاهي عريقة في فلسطين، تمتد من القرن السادس عشر، ولأهمية دورها الثقافي والاجتماعي، أعفتها السلطات العثمانية من الضرائب، في مدينة القدس تحديدًا، وابتدأت بعلية القوم ومثقفي ذلك العصر، ورغم قلتها ومحدودية انتشارها، فقد ظلّت ولفترة قريبة حكرًا على الذكور، واعتبرت الوسيلة الأهم للتفاعل الاجتماعي بينهم.
انتشرت المقاهي وتأسست في الأماكن النشطة اقتصاديًا، وارتبطت قبل كل شيء بالعمال و"الصنايعية" وبمن اغترب في بلده للبحث عن لقمة عيشه
عُرفت المقاهي في المُدن غالبًا، دون الريف الذي تميّز مجتمعه بترابط علاقات أفراده الأسرية والاجتماعيّة، الأمر الذي جعل من البيت أو ساحته، مكانًا للقاء، وفي أوقات ليس بالضرورة أن يتم الاتفاق عليها سابقًا، نظرًا للحياة الشاقة للرجل الريفيّ، الذي كان يمضي معظم حصته النهارية في العمل الزراعي، وعدم مقدرته على تقسيم الوقت. فاستغنى رجال القرية عن المقاهي، ربما أيضًا بسبب انتشار ظاهرة "الدواوين" العائلية، والتي تعتبر سياجًل آخر حول العائلة، يحافظ على حصانتها وتماسكها، ومكّنها من ممارسة الدور المحبب إليها، وهو دور "المُضيف"، كل تلك الأسباب جعلت إلى الآن من افتتاح المقاهي في بعض القرى، مغامرة غير محسوبة لمن أراد الاستثمار.
ولأسباب معاكسة، كانت المدينة الفلسطينية هي السبّاقة لإنشاء المقاهي الشعبية، بأرضيتها المفتوحة وغير المجزّأة سوى من الأعمدة، والكراسي الخشبية المنسوجة مقاعدها من القش، دون أدنى خصوصية لمن يجلسون حولها ويتحاورون بصوت عال.
والمقهى (coffe home)، تُرجم ونقل عن الأصل العربي "بيت القهوة"، ثم وصل إلينا بصورته الحالية المطورة كمنتج أوروبيّ، وظلّ منذ إنشائه وإلى فترة الحرب العالمية الثانية ينفي الخصوصية ما بين الطاولة وجارتها، حتى سقطت فرنسا بيد الاحتلال النازي، وتشكّلت المقاومة الفرنسية والتي استخدمت المقاهي كمقرات للاجتماع، ما استدعى تعاون أصحاب المقاهي لوضع فواصل خشبية تحافظ على خصوصية من يخططون لمستقبل أوطانهم.
المقاهي مُعادل اقتصادي
للمقاهي الشعبية في فلسطين في عصر ما قبل النكبة "الانتداب" جذور عريقة، وخاصة في المدن التي شهدت نشاطًا اقتصاديًا، وأهمُّها المدن الساحلية حيفا وعكا التي استقطبت الأيدي العاملة من خارجها للعمل في الموانئ والشركات، إذ كان أبرز روادها من العمال المغتربين في المدينة، لتناول مشروبات ساخنة وجاهزة بعد يوم عمل شاق في غربة عن الأهل، أو من أرباب العمل الذين جاءوا للبحث عن الأيدي العاملة ومفاصلتها، فقد انتشرت المقاهي وتأسست في الأماكن النشطة اقتصاديًا، وارتبطت قبل كل شيء بالعمال و"الصنايعية" وبمن اغترب في بلده للبحث عن لقمة عيشه، دون أن تنتقص الساعات القليلة التي يقضيها عليها الكثير من أجرته اليومية، إذ أنها كانت معادلًا اقتصاديًا للظروف العامة، دون أن ترتبط بالطبقة أو النخبة.
مثلًا لن تجد في الماضي الفلسطيني أو حاضره، ما يوازي مقهى (ريش) في القاهرة الذي كان عنوانًا لالتقاء المثقفين من الطبقة الوسطى، تبلورت فيه أنشطة ومناقشات وانطلقت منه المظاهرات في فترة السبعينيات، وله رصيد مؤرشف وطنيًا وثقافيًا، كانطلاق أول مظاهرة منددة باغتيال الأديب الفلسطيني غسان كنفاني، قادها الأديب الراحل يوسف إدريس من ذلك المقهى، وسارت وراءه جموع المثقفين مرورًا بشارع طلعت حرب. وما نتج عنه في وقتنا الحاضر وولدّه من فئة ما يسمى "مقاهي وسط البلد" القاهرية والتي كان لها دورًا بيّنًا في الأحداث السياسية التي مرّت بها مصر والمنطقة العربية في مختلف عصورها الحديثة، ودورًا لا يُغفل من فئة المثقفين والنشطاء روادها في التغيير الاجتماعي والسياسي، خاصة ما قبل ثورة مصر الشعبية 25 يناير وما بعدها، أو عندما انطلقت المظاهرات الشعبية الرافضة للحرب على العراق 1990- 2002.
من المقهى إلى الكوفي شوب
نتيجة لحالة من الركود الشعبي الفلسطيني، وخفوت الانتفاضة وأنشتطها السياسية، ازداد عدد المستثمرين في قطاعات الاستهلاك والترفيه ومنها المقاهي، وفي العقد الأخير عدد كبير منها غيّر مسماه إلى "كوفي شوب" ليتغيّر دوره شكلًا ومضمونًا، فقد تغيّرت الديكورات لتصبح أكثر حداثة، وامتلأت أحيانًا جدرانها بشاشات العرض، وأضيف للمقهى كراسي جلدية مريحة، بدلًا عن كراسي القش الخالية من مسند الظهر والتي ارتبطت دومًا بالقهوة، كما دخل العنصر النسائيّ على خط المقاهي لتصبح مختلطة في الغالب، وموسيقى غربية تصدح، وقوائم بمشروبات جديدة مضافًا إليها صورًا مشتهاة، وبعض "الكافيهات" صارت تقدم السندويتشات السريعة، وانتشرت خدمة "الواي فاي"، مضافًا إلى كل ذلك خصوصية مضمونة للجميع.
في رام الله -العاصمة الإدارية- وحدها ما يقارب الأربعمئة مقهى وكوفي شوب، تنتشر مستقلة، وتحت العمارات، وفوق أسطح الأبنية، إلّا أنها جميعها تعتمد على توفير عنصري الترفيه والراحة دون غيرهما، وأكبر مناسباتها وأفخمها على الإطلاق مشاهدة مباراة "الكلاسيكو"، وسط انقراض لأي ميزة شعبية أو ثقافية مؤثرة حتى داخل جدرانها المطلة على شارع فلسطيني محتدم أحيانًا وراكد في أحيان كثيرة، أمّا بعض المقاهي التي يشار إليها كمقاهٍ للمثقفين، مثل مقهى "رام الله" الذي يعتمد على أكثر شوارع العاصمة الإدارية ازدحامًا، يعتمد رواده من المثقفين والأكاديميين بالأساس على لقاء الصحبة ولعب الشدة والطاولة، والحديث السياسي الجانبي، من دون أن يؤسس ذلك للعب دور طليعي في الشارع، يردُّ أبو ناجي وهو من ضيوف المكان منذ افتتاحه: "الأماكن العامة في كل فلسطين جدرانها عازلة للصوت". وعلى الرغم من انتشار الجرائد اليومية وبعض الكتب على الطاولات، إلا أن المواضيع المثارة والأنشطة تظل في السياق الشخصي والمغلق، في ظل انعدام النشاطات الثقافية العامة والمؤثرة.
أمّا الغالبية العظمى من محلات "الكوفي شوب" والتي توسعت في المدن على حساب المقاهي الشعبية، فجميعها حديثة وذات طابع طبقي، ومن النادر أن تشرب فنجان قهوة لا تدفع فيه أقل من عشرة شواقل، ولتكون من روّاده، من المحبب أن تظهر بشكل يلائم الديكورات الباهظة التي صممت لتناسب طبقة معيّنة من الزبائن. وللمنافسة؛ صارت المقاهي الشعبية تتجدد بما يلائم النزعة الربحية، بعدما كانت تعتمد على من بمقدورهم ارتيادها بأي حال: صنايعية وعمال وشعب وطلبة.
اتخذ توزيع المقاهي منحىً جغرافيًا وفئويًا يمكن مشاهدته في أواسط المدن، وحول الجامعات بالذات، جامعة بيرزيت/ رام الله، وأيضًا الجامعة العربية الأمريكية/ جنين، وجامعة النجاح في نابلس وشارعها العامر على مدار اليوم (رفيديا) يغرق بالكافيهات، ذات الأسعار المبالغ فيها بالنسبة لطالب جامعي غير مُنتج، إلّا أن قلة البدائل المعقولة جعلت من شريحة الطلبة إمّا زبائن وإما أجبرتهم الظروف عنوة على المقاطعة، يختلف الأمر حول أفرع جامعة القدس المفتوحة (حكومية)، حيث تقل بجوارها ظاهرة انتشار الكافيهات، كون المنتسبين لتلك الجامعة غالبًا من محدودي الدخل، وأبناء موظفين، ما جعل السوق الحر والاستثمار الربحي يحكم بمقاطعة المنطقة، كونها أقل ربحًا من سواها، وزوارها من غير القادرين على دفع فاتورة حددها المستثمر، دون أي تدخل حكومي أو أهلي أو نقابي، فأدّى ذلك وفي ظل تحول الشعبي إلى طبقي، إلى ظهور سوء التوزيع الجغرافي وحرمان مناطق دون سواها، وحتى المناطق الجغرافية غير المحرومة فلا تستأهل الغِبطة، في ظل هكذا أسعار يبدو وكأن تحديدها مرتبط بأسعار العقارات، أكثر مما هو مرتبط بمقدرة الناس على متطلّب غير مكلف أصلًا، وكان أقل من عادي منذ سنين مضت!
اقرأ/ي أيضًا: