"ما بعد الحقيقة" مفهومٌ فكريٌ يفسر حال الرأي العام بعد ثورة الإعلام الاجتماعي. فالصحافة والإعلام والرأي العام تتحكم فيهم الرغبات والمواقف الشخصية والآراء الفردية وليس المعلومات أو الحقيقة.
"الفيسبوكيون" تصدوا بشراسة للاتفاقية ووصفوها بأقذع الألفاظ دون أن ينتبهوا أنهم لطخوا سيداو دون أن يعرفوا نصوصها
ولتسهيل التعريف بدون قاموس أكسفورد، فإن "ما بعد الحقيقة" هو ما يتشكل من رأيٍ بعد أن تقول لشخص: الأطباء يقولون إن التدخين قد يؤدي إلى الموت أو السرطان أو أمراض القلب، فيرد عليك الناس بالقول: "فلان يدخن من خمسين سنة وصحته حديد"، أو "الرأس الي ما فيه كيف قطعوا حلال"، أو "روح شم غرفة الدكاترة في المستشفى". وهكذا يصير التعليق بعفويته وضحكاته ومسامراته وأدواته ودجله أهم من الحقيقة الأم التي تقول: التدخين يقتل.
اقرأ/ي أيضًا: ديوان المظالم: سيداو ترفض البغاء والإتجار بالمرأة
هذا المفهوم المعروف في الدراسات الإعلامية تجلى بكل قوة قبل ثلاثة أسابيع عندما انطلق نقاش الفيسبوك الفلسطيني حول ورقةٍ غير موقعةٍ تم تداولها وتضمنت ما قيل إنها مطالباتٌ للمجتمع المدني الفلسطيني تخص اتفاقية سيداو التي وقعت عليها فلسطين دون أن ترفع تحفظاتٍ على موادها.
راقبت معمعان النقاش آنذاك وكان لا يبتعد كثيرًا عن بيان العشائر الذي جاء مساء أمس (السبت) من الخليل. "الفيسبوكيون" تصدوا بشراسة للاتفاقية ووصفوها بأقذع الألفاظ دون أن ينتبهوا أنهم لطخوا سيداو دون أن يعرفوا نصوصها.
"الفيسبوكيون" قالوا إن الاتفاقية تُحول فلسطين إلى "بيت...."، وإنها تحلل الإجهاض وتعطي النساء حق أمومة أطفال غير معروفي الأب. وتورط "فيسبوكيونا" نساءً ورجالاً في كلمات في منتهى الشعبوية: "لا يابا إذا الاتفاقية هيك على الرجعية والتخلف واقطع".
لقد نفذوا حالة دراسية لا لبس فيها لأي باحث ليثبت مرحلة "ما بعد الحقيقة" في الإعلام والرأي العام في مرحلة السوشال ميديا.
راقبت معمعان نقاش "فيسبوك" آنذاك وكان لا يبتعد كثيرًا عن بيان العشائر الذي جاء مساء أمس (السبت) من الخليل
طبعًا نحن لسنا ضد نقد المطالب التي صدرت عن المجتمع المدني الفلسطيني المتعلق بالخصوص ولا حتى ضد نقد اتفاقية سيداو، ولكن لنا شرطٌ صغيرٌ جدًا: أن يذهب أي راغب في الحديث عن سيداو إلى العم غوغل، ويحمل الاتفاقية ويقرأها ويحللها ثم يقول رأيه، لكن ما حدث أن الناس قالوا كلامًا شعبويًا كثيرًا في قضية لا يعرفونها.
اقرأ/ي أيضًا: هي ثورةٌ على الخير الرديء
مات الكتاب وماتت المكتبة وماتت خلوات القراءة وتوقف النجارون عن تصميم مكتبات للمنازل، وحل الخراب الذي اسمه التواصل الاجتماعي الذي أباح الحديث دون معلومة، والموقف دون قراءة، والرأي بالدوافع الذاتية، والكتابة بالأهواء. وها نحن نصعد الحافلة مع المخاتير والعشائر.
هذا ليس ذنب الإعلام الاجتماعي، فهو كأي اختراع له حسناته إذا اتفقنا عليها وله سيئاته، مثل سيارة فاخرة قد تحملنا العمر كله إذا أحسنَّا استخدامها وقد تقتلنا في ثوانٍ إذا أسأنا الاستخدام.
وللحقيقة والنكد وسمة البدن، يجب أن نعترف أن ما جاء في بيان العشائر الذي جاء من الخليل لا يختلف عن ما قاله صناع المحتوى الشعبوي الجدد، فكلاهما لا يقرأ ورقًا، بل يثقف نفسه سماعيًا بكلمةٍ من هنا وكلمةٍ من هناك، وأهواء وأذواق متداخلة دون أي التزام إزاء تدفق المعلومات أو احترام الحقائق.
يجب أن نعترف أن ما جاء في بيان العشائر الذي جاء من الخليل لا يختلف عما قاله صناع المحتوى الشعبوي الجدد
صحيحٌ أن فريق "فيسبوك" لم يُجرم مثلما فعل فريق المخاتير، لكنه قدم فاصلاً موسيقيًا ملائمًا للرجعية والعشائرية كي ترتكب هذا التحريض الذي يصل حد التعرض لحياة العاملين في المجتمع المدني، وقد يفضي إلى ذلك فعلاً، وقد يأتي قاتلٌ أو معتدٍ ويقول للقاضي إنه فعل ذلك لأن العشيرة قالت، ورجل الدين قال، وديوان العائلة قال، والبيان المنشور على "فيسبوك" قال: "لا لتأجير المجتمع المدني مكاتب، واطردوهم ومن يؤجرهم شريك لهم في الجريمة"، أليس هذا أمرًا بتمزيق عقود إيجار ورمي ممتلكات المنظمات في الشارع وتحريضًا على الاعتداء اللفظي والجسدي.
ألا تعد الدعوة إلى منع القضاة من القيام بأعمالهم، دعوة لفكفكة سيادة القانون وإضعاف القضاء والمحاكم؟ ودعوة صريحة إلى حياة خارج القانون؟
كيف نفسر تحميل بيان العشائر لمدراء المدارس المسؤولية عن دخول ممثلي المؤسسات النسوية للمدارس؟ أليس في هذا دعوة صريحة لشجارات بين المعلمين والطلاب والضيوف وورش العمل والدورات التثقيفية والتعليم اللامنهجي؟
ثم ماذا نقول عن حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير التي طالها "التحذير" إن قامت بتغطية "المنظمات المشبوهة" وإن لم تنحز إلى بيان العشائر؟
الصدمة التي نمنا عليها مساء أمس، كلنا مسؤولون عنها، وعلى المجتمع الفلسطيني الذي طاله قلم المختار بـ"التجريم" و"التحذير" أن يرد، وأن لا يعول كثيرًا على موقف السلطة ومنظمة التحرير، فالاستهداف، كما ورد في البيان، للعقل المدني ونشطاء العمل الأهلي والنساء والطلاب والمعلمين والمدراء والأسرة التربوية والصحفيين والسادة المؤجرين شققهم والمستأجرين والسادة القضاة والصحفيين وكل من يحسب نفسه على الفلسطيني المحترم والذكي والمتعلم والصابر والساعي إلى التحرر من الظلم: ظلم الاحتلال، وظلم الجهل والتعصب الأعمى.
اقرأ/ي أيضًا:
ماراثون في الخليل.. ما كل هذه الضجة؟