15-مايو-2017

لم يكن الثقل الذي نتج عن حمله لشاهد القبر ذاك، يمنعه من التنقّل فيه بين المسافرين على طول الطريق الممتدة من استراحة أريحا، باتجاه الأردن ومنها إلى بقية أنحاء المعمورة، مسافة تقبض على القلب بكامل قسوتها.

قطعت تلك الرخامة كل المسافات إلى بريطانيا متخطيَّة كل الحواجز، ونظرات الاستغراب التي رافقت تنقلها طيلة طريقها 

التقيت به طيلة الطريق من فلسطين وحتى الأردن بما تحمله من مشقة على من لا يحمل حقائب، فكيف بمن يحمل "شاهد قبر"، نعم "شاهد قبر" كان يتأبّطه طيلة طريقه، ويحمله كمن يحمل طفله بحنوّ، خشية إيقاظه، أو حتى إزعاجه، وكنت أرقبه وهو يتنقّل بين قاعات الانتظار تلك، من نقاط الحدود الثلاث التي كُتب على الفلسطينيّ تجاوزها ليتمكّن من السفر، كان يتنقّل وهو يحمل "شاهد القبر"، وعذابات الذكريات، وقلق تخطيه لها.

اقرأ/ي أيضًا: أركيولوجيا النكبة

كنت أنتظر الفرصة المناسبة لأسأل عن "حمله" الذي أثقل ظهره، وجعله ينوء تحته، وجاءت الفرصة حين وجدت مكانًا إلى جانبه في الحافلة المغادرة إلى نقطة الحدود الإسرائيلية من الجانب الفلسطيني، فجلست وأنا أتحيّن الفرصة لأعرف سرَّ "حمله"، وفي أوّل فرصة بعد التقاطه لأنفاسه بادرته بالسؤال عن "حمله" الغريب والمرهق، والسرّ الذي يحمله.

أخبرني فراس سرحان (48 عامًا)، أنّه من مواليد مخيّم الجلزون شمال رام الله، وقد استقرّ في بريطانيا منذ عام 1988. وقال بينما كان يحتضن الشاهد الرخامي المغلف بعناية لحفظه طيلة ترحاله الطويل، إنّه يتمنى أن يعبر معه هذا الشاهد الرخاميّ، فهو وصيّة والده (عبد الله سرحان) من مواليد قرية (التينة/ قضاء الرملة) عام 1926، والتي خرج منها حين كان في العشرين من عمره، وتنقّل في عدة مدن ومخيّمات إلى أن استقر في مخيّم الجلزون، وبقي فيه إلى أن انتقل إلى بريطانيا ليعيش مع ابنه عام 1999.

أوصى اللاجئ ابنه، بأن يكون شاهد قبره من حجارة فلسطين، وأن يُكتب عليه "أنا من هُناك ولي ذكريات"

فراس سرحان، أستاذ جامعي ومدير مركز أبحاث في مجال الطب عن بعد، ومتخصص في مجال التأهيل التمريضي للمصابين بكسور وشلل في العمود الفقري، ومدير مشروع في جمعية ABCD البريطانية، لم تمنعه أبحاثه وأهميتها عن تنفيذه لوصية والده اللاجئ، والذي أوصاه، حين عرف استحالة دفنه في فلسطين حتى في أماكن لجوئه الداخلية فيها، بأن يكون "شاهد قبره" من حجارتها، وأن يُكتب عليه هناك في فلسطين، إضافة إلى ما هو متعارف عليه عبارة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، "أنا من هُناك ولي ذكريات"، هذه الكلمات التي يدركها كلّ فلسطيني عاش النكبة والتهجير القسري، فتلك القصيدة تستدرج ذكريات الحنين، نُقشت على شاهد قبر سرحان لتوضع على قبره في مقبرة "ايلزبري" في مقاطعة "بكينغهام شير" بعيدًا مرة أخرى عن أرض فلسطين، وقرية التينة في تلك الدولة التي ساهمت بنكبته من خلال وعدها الذي أعطى اليهود "قبلة الحياة" في فلسطين.

اقرأ/ي أيضًا: ذكرى النكبة..احتفالات واستغلال سياسي

عمل سرحان الأب في الصليب الأحمر، ووكالة الغوث الدولية، ولنحو 40 عامًا كان مسؤولًا عن الخدمة الاجتماعية للاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان من المؤسسين لمراكز الشباب الاجتماعية في المخيمات، أتقن أربع لغات هي؛ العربية والعبرية والانجليزية والألمانية.

ويقول فراس، إنّ والده الذي صار لاجئًا في سن العشرين من عمره، أخبره عن ظروف احتلال قرية التينة، مبيّنًا أنّ العصابات الصهيونيّة احتلتها لوقف أيّ تقدّم مصريّ من طرف غزة، وهذا ما أكده مراسل صحيفة "نيويورك تايمز" بقوله إنّ من نتائج احتلال قرى تلك لمنطقة الحيلولة دون إمكان اختراق مصري في اتجاه اللطرون.

وقرية "التينة" قضاء الرملة، احتلت قبل انتهاء الهدنة في 8-9 تموز/يوليو 1948، وهي من القرى التي احتُلت في سياق عملية (أن –فار)، وكانت تتألف من قسم رئيسي وقسمين أصغر حجمًا، يقعان إلى الجنوب والغرب منه، قد توسعت في عهد الانتداب عندما شُيّدت المنازل على جوانب الطرق المؤدية إلى ثلاث قرى مجاورة.

وكان سكان التينة، وكلهم من المسلمين، يصلّون في مسجد يقع في الجهة الشمالية من القرية، وفيها بضع دكاكين ومدرسة، وكان يؤمها 76 تلميذًا، من عدد سكانها البالغ 780.

اقرأ/ي أيضًا: السيرة القسرية للمدينة الفلسطينية

ويحكي فراس، عن والده، أنّ أجاد القراءة والكتابة بشكل ممتاز، وكان يقرأ الكتب الثقافيّة والسياسيّة، والصحف. ويذهب لندوات في مدينة الرملة تتحدث عن أخطار الانتداب، وأبعاد التقسيم، وخطورة وعد بلفور.

حاول أهالي التينة البقاء في قريتهم، لكنّ الخوف والرعب من الأحداث والمذابح التي ارتكبتها العاصبات الصهونيّة في دير ياسين وعين كارم،  لعب دورًا في إجبارهم على اتخاذ القرار الصعب بالمغادرة.

يشير فراس إلى أنّ والده اضطر للخروج ليلحق ببقيّة عائلته التي تنقّلت ما بين "اذنبه"، و"تل الصافي" و"زكريا" و"الظاهرية" إلى أن وصلوا إلى الخليل، خرجوا سيرًا على الأقدام تاركين خلفهم كل شيء؛ بيوتهم ودكاكينهم ومسجدهم ومدرستهم، التي نُسفت ودُمّرت وحوّلت القرية، بعد مسح كل أثر فيها، لمناطق زراعية، وحولوا "البيارات" إلى حقول قطن.

قطعت تلك الرخامة كل المسافات إلى بريطانيا متخطيَّة كل الحواجز، ونظرات الاستغراب التي رافقت تنقلها طيلة طريقها لتستقر على قبر "عبد الله سرحان" ، وليحظى فوق قبره بشاهدٍ تزيّنه الكلمات التي طلب كتابتها عليه "أنا من هناك ولي ذكريات"، "هناك" التي لا زالت تئنَّ منذ 69 سنة.


اقرأ/ي أيضًا:

68 نكبة.. ونكبة

نكبة المكتبات الفلسطينية

سلامٌ وطنيٌ جديد!