عندما احتجّ عشرات آلاف الفلسطينيين على ارتفاع أسعار الاتصالات وخط النفاذ، مقابل سوء الخدمات، ولجأت نسبة قليلة منهم إلى القول إن الحل هو استبدال الشركات الفلسطينية بنظيرتها الإسرائيلية، أعلنت السلطة عن ملاحقة كل "مروّجي الشرائح الإسرائيلية" قانونياً. ثم عندما تأخر الجيل الثالث، وتم الإعلان عن أكثر من موعد لإطلاقه ثم التأجيل، وأعرب المحتجون عن مخاوفهم من الأسعار والخدمات المرتقبة، اعتقلت الشرطة بأمر من نيابة الجرائم الاقتصادية ناشطاً في الحراك المناهض بتهمة "الترويج للشرائح الإسرائيلية".
أحد القواسم المشتركة بين إصدار قرار الملاحقة واعتقال الناشط جهاد عبدو؛ يتمثل في أن المستفيد الوحيد من ذلك هي شركات الاتصالات، هذه التي لم تتوقف منذ اللحظة الأولى عن مهاجمة الحراك والتشكيك فيه، واتهامه بالترويج للشركات الإسرائيلية، في الوقت الذي أعلن فيه الحراك أكثر من مرة أنه لا يريد بديلاً عن الشركات الوطنية، ولكنه يريد حلاً من خلالها، وهذا ما أكد عليه جهاد في حديث لـ"الترا فلسطين" أكثر من مرة.
شركات الاتصالات أقصت أغلب وسائل الإعلام من معركتها مع المحتجين عليها، وأخذت دور السلطة التشريعية والقضائية فأصدرت قرارات وأوامر اعتقال
تطوُّر الحراك المناهض لشركات الاتصالات، ثم اعتقال جهاد، تم بعيداً عن اهتمام القسم الأكبر من وسائل الإعلام المحلية. وإحقاقاً للحق؛ فإن اتهامات أعضاءٍ في مجموعة الحراك على موقع "فيسبوك" بأن هناك إجماعاً إعلامياً على تغييب نشاطات الحراك وقضية جهاد ليست في موضعها، ولكن فيها جانب من الصواب، يتمثل في أن أكبر الجهات الإعلامية، وأكثر من نصف وسائل الإعلام في البلاد – على الأقل – قد تعمدت تجاهل الحراك لأسباب معلومة، أهمها أن شركات الاتصالات تدفع إعلانات هي ليست بحاجة لها، وتستطيع الاستغناء عنها والاكتفاء بأساليبها هي في الترويج، إلا أنها كما قال كثيرون تأتي على مبدأ "اطعم الفم بتستحي العين".
اقرأ/ي أيضاً: اعتقال ناشط في حراك مناهض للاتصالات.. شقيقه: التهمة مضحكة
وعليه، فإن رأس المال – ويتمثل في حالتنا هذه بشركات الاتصالات - أصبح أحد الحاكمين الفعليين للداخل الفلسطيني، وأزاح الصحافة من مكانها كسلطة رابعة، وحل هو بدلاً منها، لكن ليس ليقوم بمهمتها في المراقبة وكشف الفساد ووضع الحقائق أمام الرأي العام، بل ليمارس دور السلطتين التشريعية والقضائية، ولتنفذ السلطة التنفيذية ما يأمر هو به، فتوضع قرارات بملاحقة الناس واعتقالهم، بدلاً من مساءلة هذه الشركات عن عشرات الملايين من الدولارات، تحققها سنوياً كأرباح من جيوب شعب بلغت نسبة الفقر والفقر المدقع لديه 65% قبل أقل من عامين، ويقل الحد الأدنى لأجور عماله وموظفيه عن 450% دولار.
في حوار سابق مع "الترا فلسطين" قال جهاد عبدو إن شركات الاتصالات تمارس "التطقيع وإدارة الظهر بشكل لا يليق بحجمها، ولا بالشخصيات الوازنة التي تواصل معها الحراك". وقال عبدو أيضاً: "الوزارة تعترف بأن الأسعار غالية ويجب تخفيضها، لكنها تطلب وقتًا من أجل ذلك، والحراك لا يملك الوقت. فالوقت في مثل هذه الحالات يعني هدر الملايين بالنسبة للناس، ونحن نريد التسريع في تحقيق إنجازات والحصول على قرارات مكتوبة بشأن حقوقنا".
لا شك أن الترويج لأي منتج إسرائيلي ليس عملاً وطنياً، ومن واجبنا جميعاً – وأولنا الصحافيون - الوقوف ضده، لكن استغلال شركات الاتصالات للمشاعر الوطنية، و"إمساك الناس من اليد الي بتوجع" كما يقول المثل الشعبي، من أجل استغلالهم وتحقيق أرباح خيالية على حسابهم، هذا أيضاً ليس عملاً وطنياً.
الترويج لأي منتج إسرائيلي ليس عملاً وطنياً، لكن استغلال شركات الاتصالات للمشاعر الوطنية من أجل تحقيق أرباح خيالية ليس عملاً وطنياً أيضاً
إن شعباً تحت الاحتلال، ثلثه عاطل عن العمل، وأكثر من نصف العاملين منه يتقاضون أجوراً لا توفر لهم حياة كريمة، وأكثر من نصفه يعيش تحت مستوى خط الفقر، لا يمكنه أن يبقى ساكتاً على تحصيل مبالغ خيالية منه مقابل خدمات سيئة. لقد أصبح الهاتف والانترنت الآن خدمة أساسية بالنسبة للشعوب، وهو كذلك بالنسبة حتى لشعوب "الشرق الأوسط" رغم أحوالها الصعبة. فلماذا تُقدم شركات الاتصالات أسعاراً باهظة مقابل هذه الخدمة الأساسية؟ ولماذا تصر على التعامل مع الناس كأن هذه الخدمات من الكماليات؟ كأنها تقول إن من لا يستطيع دفع ثمنها فإنها لا تلزمه!
اقرأ/ي أيضاً: حراك "ضد الاتصالات": سنأتي بهم للمحاكم وسنكسب المعركة
لقد قرع المحتجون على شركات الاتصالات منذ اللحظة الأولى جدران الخزّان، وكان على شركات الاتصالات أن تفهم أن هناك بديلاً لها، فتستجيب لمطالب زبائنها الذين يزيد عددهم الآن في المجموعة الإلكترونية عن ربع مليون مواطن. غير أنها اختارت الطريق المعاكس، فتجاهلت الحراك، ودفعت موظفيها نحو التشكيك في وطنية أعضائه، وتمسّكت بأسعارها وعروضها الوهمية وحملاتها المثيرة للسخرية، فتضاعفت أعداد المنتمين للحراك، وعلت أصواتهم حتى أصبحوا يشكلون مصدر قلق حقيقي لها، فطلبت من السلطة التحرك لحمايتها منهم!
وما دام الحديث عن حق الناس في خدمات أفضل وأسعار أقل يقود إلى الصراع بين المنتج الوطني، ومنتجات الاحتلال، فإننا هنا نشير إلى السؤال الذي طرحته الصحافية ريم العمري، وهي ممن تابعوا الحراك ونشاطاته واهتموا بتغطيتها، إذ سألت عن أسباب ملاحقة مروجي الشرائح الإسرائيلية، والامتناع عن ملاحقة مروجي المنتجات الإسرائيلية الأخرى مثل اللبن. ألا يجدر بالسلطة الوطنية أن تخوض حرباً شاملة على منتجات الاحتلال، دون استثناء وانتقاء؟ لماذا تغص متاجرنا بالمنتجات الإسرائيلية علناً، ويتولى تجار جملة بيع هذه المنتجات بحرية؟
المسألة إذن ليست ضرب المنتج الوطني، ولا الترويج لمنتجات الاحتلال، بل هي وزن رأس المال في البلد، وقدرته على دفع السلطة إلى اتخاذ القرارات. وليس اعتقال جهاد إلا دليلاً على ذلك، ودليلاً أيضاً على درجة قوة الاحتجاجات على شركات الاتصالات وقلقها منها، لكنها مرة أخرى تصر على مواصلة السير في الطريق الخاطئ، غير مكترثة إلا لتحقيق المزيد من الأرباح، وهو ما ننتظر أن تبهرنا الشركة بقدرتها على التفوق فيه مرة أخرى بعد تشغيل ترددات الجيل الثالث، إذ تقول مصادر إن الأسعار المرتقبة جعلت شركات الانترنت تمتنع عن الاستفادة من هذه الخدمة، بسبب ارتفاع أسعارها إلى حد يجعل خدمة (ADSL) الحالية على غلائها وسوئها أفضل وأقل ثمناً!
اقرأ/ي أيضاً:
شركات الاتصالات أهدت زبائنها لإسرائيل وهاجمتهم