19-ديسمبر-2016

يُضطر خريجون جدد إلى التنازل كثيرًا من أجل الحصول على وظائف، للتخلص من شبح البطالة، ما يفتح الباب أمام بعض أصحاب رؤوس الأموال لاستغلالهم خلافًا لقانون العمل، إذ يروي خريجون تجاربهم مع دوامٍ يزيد عن 10 ساعاتٍ مقابل أجورٍ متدنية لا تتجاوز 300 شيقل شهريًا.

ويحدث أن يتجاوز الاستغلال ليصل إلى التحكم بلباس الموظفات، دون فرض زيٍ رسمي، وكذلك التحكم في طريقة حديثهن مع الزبائن، أو إلزامهن بأعمالٍ إضافيةٍ خارج وقت الدوام الرسمي دون مقابل. وتلتزم بعض الفتيات الصمت، ويقبلن على مضضٍ، من أجل راتبٍ شهريٍ لا يسد احتياجاتهن الشخصية، أو حتى "من أجل وظيفة تخرجهن من المنزل"، كما قالت إحداهن.

للفتيات فقط!

في جنين وطولكرم، ظهرت مؤخرًا شركاتٌ تختص في التسويق عن طريق الهاتف، تسوّق أغلبها لسلعٍ وخدماتٍ إسرائيليةٍ (شرائح، تسهيلات بنكية، بورصة وتأمينات على الحياة، وفي بعض الأحيان أجهزة كهربائية وإلكترونية) للفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة عام 48.

شركاتٌ لترويج الخدمات في إسرائيل، تقيم مقراتٍ في الضفة، وتوظف الفتيات فقط وتستغلهن بشكل مهين

الشرط الأول للعمل في هذه الشركات أن يكون مندوب المبيعات فتاة، والشرط الثاني أن تتحمل ضغط العمل الكبير. يضاف إلى ذلك شرطٌ ثالثٌ تضعه بعض الشركات دون أخرى في إعلان التوظيف، وقد أوضحته بسمة (30 عامًا) التي تقدمت لإحدى هذه الشركات الموجودة في جنين من خلال الانترنت، وهو إرفاق الصورة الشخصية مع طلب التوظيف.

اقرأ/ي أيضًا: وأنت.. ما رأيك بتسمية "عرب إسرائيل"؟

تقول بسمة: "لم يطلبوا مني سيرةً ذاتيةً بل معلوماتٍ عامةٍ مثل الاسم الثلاثي والعمر ومكان السكن ورقم الهاتف وصورة شخصية. وعندما أرسلت كافة المعلومات عدا الصورة الشخصية لم يتصلوا بي".

وتضيف، أنها اتصلت بالشركة للاستفسار عن سبب رفض طلبها، فكانت الإجابة بأن أي طلبٍ لا يرفق بصورةٍ "يلقى في الزبالة"، مضيفة، "سألتهم عن سبب حاجتهم للصورة خاصةً أن العمل سيكون عن طريق الهاتف، فقال لي الموظف إنه لا يوجد معه وقتٌ لمقابلة كل تلك الفتيات والصورة ستساعده على الاختيار".

أما إسراء (27 عامًا) فقد عملت في إحدى الشركات الإسرائيلية الموجودة في جنين لأكثر من شهرين ثم قررت ترك العمل. وتبرر ذلك بـ"الأجواء غير المريحة وضغط العمل المبالغ فيه الناتج عن صراخ المراقبات الموجودات في كل قسم، وحظر مغادرة المكتب إلا لأسبابٍ واضحةٍ ومعروفة".

وتضيف إسراء أن الشركة مقسمة إلى عدة أقسام، ولكل قسم يوجد "مَنَهيلت" خاصة بهم، أي مراقبة، وبمجرد أن تترك أي فتاةٍ الهاتف تبدأ المراقبة بالصراخ بصوت عالٍ باللغة العبرية "اعملوا الياعد" بمعنى حققوا الهدف.

كرامة مهدورة

"فترة العمل في هذه الشركات كانت أكثر المراحل سوءًا في حياتي.. التعب النفسي في تلك الفترة كان كبيرًا جدًا، والاستغلال واضحٌ ومباشر". بهذه الكلمات لخصت شابة رفضت الكشف عن هويتها تجربتها في هذا المجال.

وعندما سألناها عن التفاصيل أوضحت، "يقولون لنا نحن هنا لأن الرواتب أرخص من إسرائيل، وعندما تقل نسبة البيع يهددوننا بإغلاق الشركة وقطع رزقنا. وصل الموضوع معهم أنه إذا ذهبت البنت أكثر من ثلاث مرات على الحمام يصرخوا عليها ويهددنوها بالخصم".

أما الشابة ش.ج (25 عامًا)، عملت في إحدى هذه الشركات لمدةٍ تزيد عن أربعة أشهر، فقالت إن الشركة التي عملت بها كانت تجبر بعض الفتيات على الاستمرار في العمل لساعةٍ بعد انتهاء وقت الدوام، في حال عدم تحقيق الهدف المطلوب منهن في ذلك اليوم.

وأضافت، أن سوء المعاملة من المشرفات، والألفاظ السيئة التي كانت تضطر لسماعها من الزبائن دون أن يُسمح لها بالتعقيب عليها أو إنهاء المكالمة لأن الشركة تحظر ذلك، كانا سببًا لتركها العمل.

كذبةٌ كبيرة

هذه الحالات وسواها دفعتني إلى زيارة أكثر هذه الشركات شهرةً في مدينة جنين، بعد أن قدمت نفسي كباحثة عن عمل، وذلك بهدف التعرف على طبيعة عمل الشركة ومدى التزامها بقانون العمل الفلسطيني. وهناك التقيت بالمشرفة المسؤولة عن التوظيف، التي أخبرتني أن عمل الشركة هو تسويق البضائع والخدمات "الإسرائيلية".

وعندما سألتها إن كان وجود هذه الشركة في جنين يقلل من مدى مصداقيتها أمام الناس في الداخل المحتل، أجابت، أن على الموظفة أن تقول إنها موجودة في إسرائيل لا في جنين، موضحة، أن خطوط الاتصال من مقاسم إسرائيلية.

وأضافت بعد أن لاحظت دهشتي، "طبعًا هذه صعوبةٌ بالنسبة لشركتنا، ولكن كل شيء يعتمد على الفتاة وشطارتها حتى في هذا الموضوع. فمثلًا عندما يرد الزبون على إحدى موظفاتنا باللغة العبرية، يجب أن تقول له إنها لا تتحدث اللغة العبرية، وعندما يشكك فيها يمكنها أن تقول له إنها من القدس، أو كانت مسافرةً وعادت مؤخرًا إلى إسرائيل".

تعترف مسؤولةٌ في إحدى الشركات أنها توظف فتياتٍ من الضفة وليس من إسرائيل بسبب انخفاض الأجور

وحول الرواتب والإجازات قالت المشرفة، إن الشركة تلتزم بالحد الأدنى للأجور وفقًا لقانون العمل الفلسطيني، وأخبرتنا أنها مسجلةٌ قانونيًا في وزارة العمل لشريكين أحدهما من جنين والآخر من الداخل المحتل.

اقرأ/ي أيضًا: يوم الأرض.. فلسطينيو 48 في مواجهة "التشبيح

وأثناء حديثي معها سمعنا صوت صراخٍ غير مفهومٍ باللغة العبرية، وعند سؤالنا عن السبب أجابت المشرفة أنها مجرد "مصطلحاتٍ عبريةٍ" لتشجيع الفتيات على البيع.

ماذا يقول القانون؟

توجهنا إلى مديرية الاقتصاد في محافظة جنين للاستفسار عن مدى قانونية عمل هذه الشركة، ومدى متابعة الوزارة للموظفات العاملات في مثل هذه الشركات، وإن كان يجوز قانونيًا أن تسوّق هذه الشركة لمنتجاتٍ وخدماتٍ "إسرائيلية" من جنين، وتقول لزبائنها إنها موجودةٌ في إسرائيل.

يقول عماد أبو طبيخ مدير مديرية الاقتصاد في محافظة جنين، "هذه الشركة مسجلة لدينا كشركةٍ فلسطينية، ونحن لا نعلم ولا يعنينا إن كان لها فروعٌ أخرى في مناطق الداخل أو الخارج، لكن نحن نتعامل معها بناءً على الواقع الموجود عندي أنها موجودة في جنين أو نابلس كما هي مسجلة".

وردًا على سؤالٍ حول تواصل الشركة مع زبائنها من خلال خطوط اسرائيلية أجاب، "أنا مش فاهم ما هي طبيعة عمل هذه الشركة، انا أجيب بشكل عام عن وضع الشركات في فلسطين، دون التطرق لطبيعة عمل هذه الشركات بشكل خاص".

وبعد إطلاعه على طبيعة عمل هذه الشركات، قال أبو طبيخ إن الوزارة لا تستطيع التحرك قانونيًا إلا في حال التقدم بشكوى رسميةٍ من خلال أحد الزبائن أو المستهلكين المتضررين من هذا التصرف تجاه إحدى هذه الشركات، وفي حال عدم التقدم بشكوى فإنها تمارس عملها ضمن ما هو متفق عليه سواءً كانت موجودة في جنين أو أي مكان آخر.

وأضاف أبو طبيخ، "المنطق في الموضوع أن يكون صاحب الشركة صادقًا مع زبائنه، وهذا التصرف يعتبر غير منطقي وغير أخلاقي".

لا تحرك وزارة الاقتصاد ساكنًا تجاه شركاتٍ تخدع زبائنها وتستغل حاجة موظفاتها للعمل لأنها لا تتلقى شكاوى

أما الباحث القانوني ماجد العاروري، فأوضح، أن الأهم في هذه الحالات هو عدم وجود تضليلٍ في المنتج، أكثر من مكان المسوق، "بمعنى لو أنهم يقدمون معلوماتٍ مضللةٍ عن المنتج، أو إذا نجم عن المكان خدعةٌ يكون هناك مخادعة وعملٌ غير قانوني، أو في حال تقدم أحدهم بشكوى لأن الشكوى تكشف خداعًا ما".

وحول سوء معاملة الموظفات، علق العاروري بأن مدة العمل القانونية هي ثماني ساعات، وأي تجاوزٍ لهذه المدة يجب أن يكون مدفوعًا باعتباره عملاً إضافيًا، مشيرًا إلى ضرورة منح العامل نصف ساعة للغذاء وقضاء حوائجه، "وأي إجراءات غير ذلك تشكل مخالفةً للقانون".

معظم الشابات اللواتي التقينا بهن رفضن ذكر أسمائهن خوفًا من مشاكل قد تواجههن، وبعضهن رفضن الحديث لأنهن يعتبرن أن هذه الشركة هي ملجئٌ ومصدر رزقٍ لشاباتٍ كثيرات. إحداهن قالت إن هذه الشركة "تفتح بيتها وتطعم أطفالها"، وأخرى قالت بألم: "الشركة مليئة بالمساوئ، ولكن قبل أن نخبركم عن مساوئها أوجدوا لنا بديلًا ثم حدثوا العالم عنها".

اقرأ/ي أيضًا: 

"النايس جاي" تغزو القدس "ببلاش" وبغطاء إسرائيلي

"حسبة" رام الله.. هل هي مكبّ لخضار وفواكه إسرائيل؟

بالوثائق.. "مقام يوسف": عندما يعبث السياسي بالديني