بمجرد مرورك من الباب الخشبي للكنيسة البيزنطية شرق مدينة جباليا شمال قطاع غزة، تعود بك عجلة الزمن إلى القرن الخامس ميلادي، فتحت الرمال كانت الكنيسة الأقدم التي تعجّ بآثار الرهبان والقساوسة، في المكان الذي كان أيضًا محطة لاستراحة الحجاج المسيحيين المتجهين للأرض المقدسة.
بالقرب من المدخل يقع الجزء الأول من الكنيسية وهو المبنى الذي كانت تقام فيه شعائر الصلاة، وقد بني على الطراز البازليكي في الفترة البيزنطية
وافتتحت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية في قطاع غزة منتصف الأسبوع، موقع الكنيسة بعد إعادة إحيائه وترميمه وإجراء المزيد من عمليات التنقيب على مدار أربع سنوات ماضية ليحاكي صورته في القرن الخامس للميلاد.
عبر ممرات خشبية معلّقة تعتلي أرضية الكنيسة الفسيفسائية، بدأنا رحلة استكشاف الموقع الواقع على مساحة 800 متر، بصحبة المرشد السياحي مروان المصري. بالقرب من المدخل يقع الجزء الأول من الكنيسية وهو المبنى الذي كانت تقام فيه شعائر الصلاة، وقد بني على الطراز البازليكي في الفترة البيزنطية، ويتمتّع هذا القسم بأرضية فسيفسائية غاية في الروعة والجمال، تحتوي على زخارف هندسية ورسومات لعدد من الطيور والحيوانات كالغزال والنعام والصقور والأحصنة.
وفي الجهة الجنوبية المحاذية تمامًا لموقع العبادة تقع مجموعة من الملاحق المعمارية، وهي عبارة عن غرف للرهبان والقساوسة، كما تم العثور على بعض القبور أثناء عملية الترميم الأخيرة، يظهر من بعضها بقايا عظام، كما يحتوي هذا الجزء على بئر ماء لمياه الشرب ما تزال معالمه واضحة للغاية.
وأما القسم الغربي للكنيسة فيحتوي على حوض التعميد، وأرضيات فسيفسائية تتضمن نصوصًا باللغة اليونانية القديمة، ورسومًا لمناظر ريفية وأدوات طبخ ومناظر الصيد والأنهار وأشجار النخيل والعنب.
اقرأ/ي أيضًا: فسيفساء "قصر هشام" تخرج من تحت الرمال
وبحسب المرشد السياحي مروان المصري، اكتُشفت الكنيسة عام 1998 بالصدفة أثناء القيام بأعمال إعادة بناء طريق صلاح الدين الرئيس الذي يربط قطاع غزة من شماله إلى جنوبه، وقد كانت الكنيسة مغمورة في الرمال.
وأوضح المصري أن الكنيسة البيزنطية تعد من أهم كنائس بلاد الشام، لاشتمالها على العناصر المعمارية المتكاملة، حيث اشتملت على نظام الكنيسة البازيليكي ذو الأروقة الثلاثة، كما اشتملت أرضية الفسيفساء على 16 نصًا باللغة اليونانية القديمة، تجري محاولات لترجمتها.
ويشير المصري إلى أن أقدم نص وجد في الكنيسة يعود إلى عام 444 للميلاد، زمن الامبراطور البيزنطي ثيودوسيوس الثاني، وأخر نص يعود إلى عام 780 للميلاد.
ولفت إلى أن الكنيسة عاصرت 24 "امبراطور" بيزنطي بدءًا بالإمبراطور انستاسيوس الأول ونهاية بالإمبراطور هرقل عام 636 ميلادية، كما أن وجود الكنيسة استمر منذ الفتح الإسلامي، وعاصرت 14 خليفة، ابتداءً من الخليفة عمر بن الخطاب عام 636، حتى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام 775.
الكنيسة تعرضت لقصف جوي ومدفعي إسرائيلي أثناء التوغل شرق بلدة جباليا، وقد تم هدم سورها الخارجي
وذكر أن الكنيسة تعرضت خلال القرن الثامن الميلادي لحرب الأيقونات -التي عارضت خلالها السلطات الدينية والإمبراطورية داخل الكنيسة الأرثوذكسية استخدام الصور أو الأيقونات الدينية- الأمر الذي أحدث بعض التغيير في المناظر المرسومة على الأرضيات الفسيفسائية، والتي لا يمكن إعادة ترميمها كما كانت.
وأشار إلى أن عمليات التنقيب الأخيرة كشفت عن احتواء الكنيسة على قبور أباطرة وأنصار الكنيسة، وما تزال بعض العظام البشرية بارزة من تلك القبور، إضافة للعثور على عملات معدنية وقطع فخارية وحليّ من الفضة.
وبين المصري أن الكنيسة تعرضت لقصف جوي ومدفعي إسرائيلي أثناء عمليات التوغل التي قامت بها قوات الاحتلال شرق بلدة جباليا خلال الأعوام الماضية، وقد تم هدم السور الخارجي للكنيسة.
اقرأ/ي أيضًا: كشف أثري بين الخليل وعسقلان: معبد كنعاني
من جانبه أكد مدير عام السياحة والآثار بمدينة غزة جمال أبو ريدة أن الوزارة قامت بمجهودات ذاتية للحفاظ على موقع الكنيسة، فيما أثّر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة بعدم توفر الدعم الكافي للاهتمام والعناية بالموقع.
وأشار في حديث لـ "الترا فلسطين" إلى أن العديد من المؤسسات حاولت سابقًا ترميم الكنيسة التاريخية لكنها فشلت بسبب الاحتلال الإسرائيلي والعدوان المتواصل على قطاع غزة، لافتًا إلى أن الوزارة أشرفت في 2017 على ترميم دائم للموقع حتى عام 2021، بتنفيذ منظمة الإغاثة الأولية الدولية والمدرسة الفرنسية للآثار في القدس.
ولفت إلى أن مجموعة من الطلاب الفلسطينيين الذين يدرسون علم الآثار في الجامعات الفلسطينية شاركوا بالعمل لمدة أربع سنوات على ترميم الكنيسة، بإشراف خبراء.
وبيّن أبو ريدة أن الموقع الأثري يتكون من ممرات معمارية شبيهة بالكنائس التي تم بناؤها بالفسيفساء على الطراز البيزنطي الذي كان موجودًا في أوروبا الشرقية وأماكن أخرى من العالم.
وأوضح أن مدينة غزة كانت ممرًا تجاريًا بين العصور المختلفة، معربًا عن أمله في أن ينشِّط هذا الموقع السياحة الداخلية في قطاع غزة، وأن يسهم في إطلاع المواطنين على تاريخ مدينتهم وأهميتها الجغرافية والتاريخية.
ولا يخفي المسؤول في وزارة السياحة تخوّفاته من تعمّد الاحتلال الإسرائيلي قصف الكنيسة في أي مواجهة مع المقاومة الفلسطينية، كما قام بذلك في مواقع أخرى خلال عدوانه على قطاع غزة.
اقرأ/ي أيضًا: