11-مايو-2017

في أقصى الجنوب من أرض الخليل، حيث منح الظاهر بيبرس اسمه لبلدة الظاهرية، تستطيع أن تذهب برحلة تشبه دخول "آلة الزمن"، عند زيارتك لقرية عناب الكبير، لتسرد لك المواقع الأثرية والأرضيات الفسيفسائية هنا حكايات عن حقب زمنيّة مختلفة وطويلة.

تُرجع رواياتٌ اسم قرية "عناب الكبير" إلى العنب الذي اشتهرت به، فيما تتحدث رواياتٌ أخرى عن بعثة مسيحية سكنت المنطقة قديمًا

آثار هذه القرية، حسب المهتم بشؤون الآثار وابن البلدة أدهم البطاط، يعود عمرها لأكثر من 2200 عام، إذ تحتضن آثارًا لكنيسةٍ قديمةٍ باسمها، سجادها الفسيفساء الملوّن، وأعمدتها رسومات منحوتة في الصخر، تحيطها الآبار والقنوات الفخارية ومعاصر العنب والزيتون القديمة، والقبور التي تعود إلى زمن الظاهر بيبرس، وما زالت موجودة حتى الآن.

تبعد القرية نحو 22 كيلومترًا عن مدينة الخليل. ومن الشرق تجاورها قرية "أم القصب"، ومن الشمال بلدة الظاهرية، وإلى الغرب منها "الرماضين"، أمّا إلى الشرق فقرية "سومرة". وينحدر سكانها من بلدة الظاهرية وعرب الرماضين، فتسكنها عائلات، المليحات، والعجارمة، والوريدات، وأبو بطيح، وأبو شرخ، والهوارين.

اقرأ/ي أيضًا: بالصور: قرية كور.. وحنين لأيّام "عزّ"

وكنيسة عناب، كانت مركزًا كنسيًا لمنطقة جنوب الظاهرية، ومرّت حسب المختص بشؤون الآثار أحمد رجوب، بمحطاتٍ عدة؛ منذ بُنيت في القرن الخامس الميلادي من طابقين بتخطيط "بازليكي"، يحتويان على ثلاثة أروقة ومصلى، إضافة إلى الساحة الفسيفسائية وبئر الماء.

وشهدت الكنيسة تغييرات في شكلها وزخارفها، فطُمست رسومات لحيوانات وطيور كانت منقوشة على حجارتها وأرضياتها؛ لاعتقادات دينية. ويذكر الرجوب أن هذا التغيير شمل الكنائس والمساجد آنذاك، ففي القرنين السابع والثامن، شهدت المعابد تأهيلًا إسلاميًا، وتبعتها الكنائس في ذلك.

جدلية التصوير، كان لها دورٌ في طمس المزيد من الرسومات المنقوشة على الأرض، لاسيما في فترة الخلافة الأموية، حيث انعكس ذلك على الكنائس وأرضياتها، ولكن المهتم بشؤون الآثار الرجوب، يقول "إنه من الممكن تحديد أشكال الطيور والحيوانات، من خلال الإطار الخارجي، إلا أنها شوّهت عمليًا".

وتعرضت أجزاء من مباني الكنيسة للهدم، واختلفت الروايات حول أسباب ذلك، فبعضها تحدثت عن زلزال حدث في القدم، وأخرى أرجعت ذلك إلى الهجرات المتعاقبة للمنطقة، والتوسّع العمراني في فترات متلاحقة، فيما يواجه ما تبقى منها إهمالًا، رغم أهمية الآثار وتاريخها ووجودها.

وكانت عناب الكبير، والقلعة المجاورة لها "رجم الجريدة"، تداران من الأديرة، خصوصًا في الفترة البيزنطية، والإسلامية المبكرة (الأموية والعباسية).

اقرأ/ي أيضًا: واد صوانيت: سحرُ النّرجس وصدى ابتهالات الرّهبان

ويبدو لافتًا انتشار الأرضيات الفسيفسائية في عناب الكبير، ويذكر مؤرخون أنّها كانت تزيّن أرضيّات المؤسسات العامة قديمًا، فأخذت أجزاء من عناب ورجم الجريدة نصيبها من هذا التزيين، بكنيستها ومعاصرها وساحاتها المجاورة، إلا أنّ فسيفساء الكنائس، تختلف عن تلك التي في الساحات والمعاصر، شكلًا وحجمًا واستخدامًا.

ويبيّن أحمد الرجوب، أن المنطقة بشكل عام غنية بأرضيات الفسيفساء، التي تزيّن أيضًا عشرات المواقع المختلفة جنوب الخليل، وتقدّر بـ10% من إجمالي أرضيات الفسيفساء في فلسطين.

هذه المواقع، في جنوب الظاهرية، حملت أهمية عظمى في القدم، حيث شهدت كثافة سكانية كبيرة في الفترة البيزنطية؛ كعناب الكبير، وعناب الصغير، ورجم الجريدة، ورجم الحمص، إلا أن عناب الكبير كانت المركز الرئيس لها، كبلدة يدين سكانها المسيحية، إضافة إلى وقوعها على تقاطع طرق، يربط الشمال بالجنوب، والخليل بغزة، وصولًا إلى مصر، كطريق للحركة التجارية المحلية والعالمية.

اقرأ/ي أيضًا: مار سابا.. قصة دير مُحرَّم على النساء

وكان لعناب الكبير، أهمية اقتصادية كبيرة، فاعتمدت القرية قديمًا في اقتصادها على العنب، وكانت معاصر القرية لا تتوقف عن إنتاج النبيذ والعصائر. يقول الرجوب إنّه كان مصدر قوة لاقتصاد المنطقة وفلسطين بشكل عام.

وتُرجع رواياتٌ اسم قرية عناب الكبير إلى العنب الذي اشتهرت به، فيما تتحدث رواياتٌ أخرى عن بعثة مسيحية سكنت المنطقة قديمًا، فسميت باسمها.

ويسرد برج رجم الجريدة الروماني المحصن تفاصيل أخرى عن القيمة التاريخية للمنطقة. فهو واحد من عدة قلاع وأبراج عسكرية، اكتُشف في تسعينات القرن الماضي، ويضم آثارًا يونانية تعود للقرن الثالث قبل الميلاد، وأخرى رومانية وبيزنطية.

ويوضح الرجوب، أن البرج بني في الفترة الرومانية المتأخرة على طول البرية في منطقة الخليل، لحماية المراكز الحضارية من هجمات البدو، بإدارةٍ من الجيش الروماني، وقد جاءت تسميته من طبيعة المنطقة الجرداء التي بني عليها، والتي لم تمنع إقامة مساكن وأديرة لاحقًا، إضافة لمعصرة كانت تنتج ثلاثة آلاف لترٍ من النبيذ آنذاك.

في الفترة الإسلاميّة، حُرّم الخمر، فتغيّر الأساس الاقتصادي الذي تقوم عليه الأديرة من معاصر للعنب، إلى أخرى للزيتون

ويتحدث الرجوب عن تغيرات شهدتها المنطقة اقتصاديًا في الفترة الإسلامية، حيث حُرّم الخمر، فتغير الأساس الاقتصادي الذي تقوم عليه الأديرة من معاصر للعنب، إلى أخرى للزيتون، واستبدلت الزراعة السائدة والمتمثلة بالعنب، إلى زراعة أشجار الزيتون أيضًا، وبقيت معاصر العنب والزيتون، شواهد حية، لا تزال ماثلة حتى الآن.

اقرأ/ي أيضًا: "عبد الله اليونس" برعمة بين أشواك الاحتلال

في الوقت الحالي، يدير "عناب الكبير" مجلس مشاريع صغير مختص بشؤون أهلها، يقدّم الخدمات الإنسانية والاجتماعية، ويعمل على إعداد الخطط والمشاريع في القرية، وينقل قضايا سكانها وهمومهم إلى بلدية الظاهرية التي تتولى شأنها.

وكغيرها من المناطق المصنفة "ج" في الأراضي الفلسطينية، تعاني عناب وما يجاورها من قرى، من سوء الخدمات المقدمة لها. فيذكر أدهم البطاط، أن الماء والكهرباء لم يصلاها إلا منذ فترة قصيرة، حيث أُنشئ مشروع للطاقة الشمسية عام 2010، لتزويد المنطقة بالكهرباء المعتمدة على أشعة الشمس.

مدرسة، ومنازل بسيطة وخيمًا أقيمت حديثًا في القرية، تحديًا لقرارٍ سابقٍ من الاحتلال الإسرائيلي بمنع البناء

وأضاف البطاط، أن منازل بسيطة وخيمًا أقيمت حديثًا في القرية، تحديًا لقرارٍ سابقٍ من الاحتلال الإسرائيلي بمنع البناء في القرية، إضافة إلى مدرسة لطلاب المنطقة، صفوفها مكتظة.

وتفتقر القرية للعيادات الصحية لتقديم الخدمات، أو الأطباء المقيمين فيها، وتعتمد على الزيارات لبعض الأطباء من المؤسسات المحلية والدولية؛ فيضطر سكانها المرضى للذهاب إلى الظاهرية للعلاج.

ويعمل أهالي القرية أساسًا في الزراعة، وتحديدًا زراعة الكرسنة والحمص والشعير، إلى جانب تربية المواشي، وكثير من أراضيها غير مستغلة لشح الأمطار فيها، وقلة مصادر المياه.

وإضافة لشح المياه، فإن نقص المولدات الكهربائية، وانعدام خطوط الاتصالات في أغلبها، وكذلك انعدام شبكات الصرف الصحي، ونظام جمع النفايات، كلّها تعمّق تعقيدات الحياة في المنطقة، كما تزيدها أيضًا سوء خدمة المواصلات العامة، إذ يُضطر السكان للسير على الأقدام، أو استخدام المواصلات الخاصة لتلبية الاحتياجات.

وبدأت آثار المنطقة تلقى اهتمامًا محدودًا في الآونة الأخيرة، من جانب وزارة السياحة، تمثل بتغطية أرضية الفسيفساء للحفاظ عليها، وتكليف مراقبين في بعض الأوقات، وتحديد بعض المعالم في "رجم الجريدة" للتعريف بها.

المستوطنون يتواجدون في المكان من حين لآخر، والأهالي يتحدّثون عن سرقة حجارة أثرية

ولا تسلم أيضًا عناب الكبير أو الجريدة، أو غيرها من مناطق جنوب الظاهرية من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، فيشير البطاط إلى زيارات ينظمها المستوطنون تحت حماية الجنود، ووزارة السياحة الإسرائيلية بين الفينة والأخرى إلى هذه المواقع.

يشار إلى أن سلطات الاحتلال بدأت عام 2006 بإقامة أجزاء من جدار الفصل العنصري على 100 دونم من أراضي "عناب الكبيرة"، من الجهتين الغربية والجنوبية، كما تقوم على أراضيها مستوطنتا "أشكيلوت" و"معالي أوماريم".


اقرأ/ي أيضًا:

العيزرية.. معجزة للمسيح وكنيستان بينهما مسجد

قطار غزة... هل يعود لنفث دُخانه؟

في بيت لحم.. أسماء القرى تروي تاريخًا