09-أبريل-2019

في طريقك إلى مدينة جنين عبر شارع نابلس، وقبل أن تبتلعك الكتل الاسمنتية الممتدة بلا نهايةٍ داخل المدينة، لحظة وصولك إلى مدخل جنين الجنوبي ومن حولك الأحراش والمساحات الخضراء ستكون "بيارة البرتقال" الأخيرة في المدينة على الجهة اليمنى من الشارع بانتظارك.

بقايا بيارة عبد المنعم خنفر على مدخل جنين الجنوبي

جنين التي سُميت نسبة إلى مدينةٍ كنعانيةٍ أُقيمت عليها اسمها "عين جنيم" وتعني عين الجنائن لكثرة عيون المياه والطبيعة الخضراء بها، تقلصت مساحتها الخضراء اليوم بسبب التوسع العمراني وجفاف عيون المياه فيها.

سوق جنين الحالي كان قبل نحو 50 عامًا فقط بساتين وأشجار نخيلٍ وبيارات برتقال "الشموطي" الذي كانت تشتهر به جنين

جنين عام 1918

المسن سامي مسّاد (80 عامًا) من مدينة جنين يخبرنا أن سوق جنين الحالي كان قبل نحو 50 عامًا فقط بساتين وأشجار نخيلٍ وبيارات برتقال "الشموطي" الذي كانت تشتهر به  جنين، فيما أصبحت اليوم تفتقد إلى الأشجار بعد اقتلاعها تدريجيًا، كان آخرها اقتلاع بلدية جنين معظم الأشجار في شارع أبو بكر بحجة "تجميل الشارع وتوسعته".

ورغم أن الناس لا تذكر جنين عند ذكر بيارات البرتقال في فلسطين، إلا أن كتب التاريخ أكدت تفوّق بساتين الحمضيات بشكل عام والبرتقال بشكل خاص في المحافظة ككل، حيث بلغت نسبة الحمضيات بين عامي 1940 و1963 ما يقارب 74% من نسبة الأراضي الزراعية، وفق موسوعة "بلادنا فلسطين" للمؤرخ مصطفى مراد الدباغ.

"كان زمان البرتقال حلو جدًا، وطعمه لذيذ وفيه نوع من التعطير، المزارعون أحضروا تركيبة الشجر من يافا ولكنه تفوّق على برتقالها، لأن الأرض والتربة الطينية هنا في جنين غنية تختلف كثيرًا عن الزراعة الساحلية" قال مسّاد.

وعن أسعار البرتقال، بيّن أنه يذكر أن كيس البرتقال الكبير كان يباع بخمسة قروش وينقلونه على الجِمال إلى القرى المجاورة، حيث كان الناس مع بدء الموسم ينتظرون الباعة على مداخل القرى لشراء البرتقال.

وأخبرنا أن البيّارات التي كانت موجودة سابقًا رغم زراعتها بمساحاتٍ واسعةٍ إلا أنها كانت بالكاد تكفي حاجة سكان جنين وقراها، وهذا قلَّل من نسبة تصديره إلى الخارج، ما أدى إلى عدم اشتهار برتقال جنين كبرتقال يافا الذي كان ينقل بالسفن عبر البحر.

جنين عام 1938

"فؤادي يا برتقان، فؤادي يا برتقان". يستعيد رامي يزبك من مدينة جنين ذكريات أسواق البرتقال التي كانت تزدهر في هذا الوقت من كل عام، ويقول إن برتقال جنين كان البرتقال الشموطي، إلا أنه كان مشهورًا بـ"برتقال فؤادي" نسبة إلى فؤاد عبد الهادي صاحب أول وأكبر وأشهر بيّارة برتقال كانت موجودة في جنين قديمًا.

البرتقال الشموطي هو الأشهر بين أنواع البرتقال في جنين، وكان يسمى الفؤادي

امتدت بيارة فؤاد عبد الهادي على امتداد الشارع المؤدي إلى مدينة الناصرة على مساحة تقدر بـ 36 دونمًا، وكان معظم أهالي المدينة يعملون بها، ورغم أن عدد بيارات جنين (المدينة فقط) بلغت 14 بيارة، وفقًا لأرشيف وزارة الزراعة، إلا أن البرتقال الفؤادي ظل الأشهر في المدينة والمناطق المجاورة.

اقرأ/ي أيضًا: كيف اجتمعت مصر وإسرائيل ضد بطيخ جنين؟

المهتم بالأمثال الشعبية والتراث خالد أبو علي وثَّق أسماء بعض البيارات التي كانت مشهورة في المدينة قديمًا، منها بيارات آل عبوشي، وبيارة آل جرار، وبيارة النفاع التي تحوّلت اليوم جميعها إلى عماراتٍ ومبانٍ تجارية، وبيارة محمد الحج عارف، وبيارة علي فزع، وبيارة عبد المنعم خنفر التي تحدثنا عنها في بداية التقرير.

أستاذ الجغرافيا كمال جبر المتقاعد من جامعة بيرزيت قال إن زراعة بيارات البرتقال في جنين بدأت منذ ما يقارب عام 1856، وحسب إحصائياتٍ وثقها نقلًا عن دائرة الزراعة، فإن إنتاج محافظة جنين من البرتقال عام 1963 بلغ 572 طن.

توجهنا إلى مبنى مديرية وزارة الزراعة في مدينة جنين، للاطلاع على أرشيف المدينة الزراعي. المبنى موجودٌ وسط المدينة ومُقامٌ على أرضٍ كانت بيّارة برتقالٍ قديمًا، وفق ما أخبرنا به سامي مسّاد وأكده لنا أحد موظفي المديرية.

وزارة الزراعة في جنين تستأجر مبنىً أُقيم على أرضٍ كانت بيارة برتقال قديمًا

وخلال بحثنا في غرفة الأرشيف الخاصة بالمديرية برفقة أحد الموظفين لم نجد أي معلومة حول زراعة الحمضيات قبل عام 1984، قال لنا أحد الموظفين إن السبب هو إتلاف الوزارة قبل سنوات جزءًا من أرشيف الزراعة في جنين، دون توضيح الأسباب.

عثرنا على إحصائية صادرة عن "زراعة لواء حنين" بتاريخ 6 تشرين ثاني/نوفمبر 1989 كُتب فيها تحت عنوان البستنة الشجرية: "هناك نقص في الحمضيات بمساحة 98 دونم من الموسم السابق، حيث خلع 82 دونم من قبل أصحابها لأنها تقع داخل حدود البلدية بهدف بيع الأرض، وحوالي 16 دونم خلعت بفعل أمني".

وأظهرت الإحصائية ذاتها أن معدل إنتاج الحمضيات في جنين خلال موسم 1988/1989 من البرتقال الشموطي بلغ 2 طن، وبلغ معدل السعر للكيلو الواحد 20 قرشًا، إذ ارتفع سعره مقارنة بإحصائية عام 1987/1988 حيث كان معدل السعر 8 قروش. فيما بلغ معدل الإنتاج عام 1984/1985 ما يقارب 2500 كغم لكل دونم، وكان الكغم الواحد يباع بـ 80 فلسًا.

قال لنا منذر صلاح مدير دائرة الخدمات الإرشادية في المديرية، إن مدينة جنين كانت من المحافظات الأولى في زراعة البيارات، مشيرًا إلى أن الحمضيات وأشجار النخيل كانت طابعًا أساسيًا من منظر جنين العام ومن أهم ميزاته.

وعن أسباب تراجع البيارات في المدينة أوضح صلاح أن نقص المياه كان السبب الرئيسي لذلك، حيث أن الاحتلال سحب المياه الجوفية ما أدى إلى جفاف الآبار الارتوازية التي كان المزارعون يعتمدون عليها لري محاصيلهم، وخاصة الحمضيات التي تحتاج إلى مياه بشكل أساسي ما أدى إلى ارتفاع أسعار المياه.

وزارة الزراعة: تراجع البيارات في جنين سببه الرئيسي نقص المياه بسبب سياسة الاحتلال

وأضاف، "كان البرتقال الشموطي وأبو سرة واليوسفي هو المعروف في المنطقة -أشهرها الشموطي- ولكن بعد احتلال فلسطين ظهرت أصنافٌ حديثةٌ للحمضيات، وكانت إنتاجية الأنواع المزروعة ضعيفة نسبيًا مقارنة مع الجديدة، فأصبح هناك منافسة شديدة للأصناف المحلية".

اقرأ/ي أيضًا: انثروا البذور تحصدوا خضارًا في كل مكان

وأكد أن الزحف العمراني وتطور أسعار الأراضي الزراعية ووجود البيارات بالقرب من التجمعات السكنية تحديدًا في مدينة جنين، كان من الأسباب الأساسية لانخفاض نسبة زراعة الحمضيات في جنين، واختفاء هذه البيارات تدريجيًا.

خالد أبو علي أضاف إلى الأسباب السابقة أن قصر عُمر أشجار الحمضيات، وتقسيم الأراضي وتوزيع الملكية بين الورثة وإهمال محاصيل البرتقال وقلة الخبرة في تسويقه أثرت بشكل عام على عدم استمرار هذه البيارات.

"قديمًا كان شارع بورسعيد وشارع البريد وشارع أبو بكر والأسواق الحالية عبارة عن بيارات للحمضيات بشكل عام والبرتقال بشكل خاص، وكان يتم تصدير البرتقال من جنين إلى الدول العربية كالأردن والخليج" قال صلاح.

وعن زراعة الحمضيات في المحافظة خلال عام 2018، بيّن صلاح أنه يوجد حاليًا 150 دونمًا من البيارات، 100 دونمًا منها قديم ومثمر، والباقي أشجارٌ جديدةٌ موجودةٌ في سهل جنين وبلدات برقين وكفردان وقباطية، ويتم توزيع الناتج في الأسواق المحلية.

ختمنا يومنا بزيارة بيارة عبد المنعم خنفر التي يزيد عمرها عن 70 سنة، وهي البيارة "القديمة" الأخيرة في أراضي المدينة. أخبرتنا زوجة أحد أبنائه أن البيارة كانت تنتج قديمًا برتقال أبو سرة، إلا أنها اليوم لم تعد تنتج حيث تحولت إلى خُشخاش ومرعى للأغنام بسبب إهمالها عقب احتراق الأشجار في الانتفاضة الأولى.

وأضافت وهي تتجول برفقتنا في بيارة البرتقال القديمة، "كان لوالد زوجي بئر نبع يسقي منه البيارة، وكان المحصول كبيرًا لدرجة أنه يبيعه في جنين ويصدر منه إلى الأردن، إلا أن النبع جف وتدريجيًا أصبحت تُهمل إلى أن احترقت وتركت بشكل كامل (..) كانت حبة البرتقال مثل طعم الراحة (حلوى) راحة العادي".

في نهاية الزيارة أخبرتنا أن أولاد عبد المنعم خنفر وعقب وفاة والدهم باعوا البيارة لأحد أصحاب رؤوس الأموال في جنين الذي يريد استغلالها لكونها على شارع المدينة الرئيسي لبناء مصانع وبنايات تجارية وسكنية، وأنه بأي لحظة سيتم اقتلاع الأشجار "حالها كحال بقية أراضي جنين".


اقرأ/ي أيضًا: 

 هذا الحب لاجئ من يافا

أصابع بوذا ويد الاحتلال في الأغوار

كنز مدفون في إحدى دفئيات وزارة الزراعة بغزة