14-مايو-2018

صورة تعبيرية

تُوفيت جدّتي العام الماضي. جدتي هي مدينة يافا بالنسبة لي، ليس لأنها هُجّرت منها فقط، بل لأن في وجهها خريطة المدينة كاملة. هي سمراء طويلة القامة نشيطة الحركة تحبّ الطبخ وتحبّ الضيوف، تحبّهم كثيرًا ولا تعتقد أنّ صنفًا واحدًا من الطعام يكفي. أمّا فكرة أن تتركهم يأكلون الفواكهة بمفردهم فهذه بعيدة عنهم، تقشّرها لهم وتلحّ عليهم أن يأكلوا كل ما في أطباقهم، وتحتجُّ دائمًا أنّهم لم يأكلوا بما يكفي.

  مُدهشة جدتي التي جعلتني أذكر أهل يافا دائمًا بحب! مدهشٌ كيف يمكن لإنسان واحد أن يجعلك تحفظ ملامح مدينة لم تزرها!  

جدّتي جميلة، أصابع يدها طويلة ورقيقة، وعندما تقشّر البرتقال، البرتقال بالذات، تبكي كل بيارات يافا لأنّ هذه الأيدي لا تستطيع لمس برتقالها وتقديمه بهذا الحُبّ، للضيوف.

رغم التقدّم في العمر؛ ظلّت لهجة جدّتي "اليافوية" حيّة، يمكنك أن تقيس عمر اللجوء من لهجتها، ففي كل مرة تنطق الكلمة بلهجة مختلفة عن أبنائها وأحفادها وأهل قريتها الجديدة، يمرّ مشهد هروبها ليلًا بين الأشجار. فالطفلة الخائفة من صوت إطلاق النار في القرية المجاورة ربما نطقت ذات الكلمات بذات اللهجة التي تتحدث فيها هذه الجدّة مع أحفادها في شرفة بيتها المليئة بالأزهار. نجت لهجة جدّتي وظلّت معها، وهذا يعني الكثير.

أتحدّث عن جدّتي لأني أريد أن انتقل إلى مستوى آخر من الحزن، أو ربما شكل جديد للنكبة تعلّمته منها، فانتقالها من حياة مستقرّة أمنة في يافا إلى حياة صعبة وقاسية في رام الله لم يكسرها، بل صنع منها المرأة التي يحبّها ويحترمها الجميع، امرأة تحدّثك عن قسوة اللجوء ولكنّها تحثُّك في ذات الوقت أن تنظّف زجاج النافذة بدقّة. لم يكسرها الحنين وتشتت إخوانها بين الأردن وبريطانيا، ولكنّه خلق منها امرأة تحبُّ السفر، تريد أن تتعلم الانجليزية ومتمكّنة من تفاصيل العملة الأمريكية المعقدة رغم أميّتها. امرأة ذكية عملت خارج المنزل كما في داخله، وأنجبت "جيشًا" من الأبناء. وعندما حان وقت راحتها لم تنس نصيب الآخرين من راحتها وهناء عيشها.

هذا الحُبّ الفريد الذي منحته جدتي للآخرين ليس قصة شخصية تكتبها حفيدة اشتاقت لجدّتها، بل هو الدفء الذي يختبئ في حكايات اللجوء، هو مثال على أن فقدان الآمان يمكنه أن يكون سببًا كافيًا لمنحه للآخرين. وأنّ الجوع يخلق في الجائع حُبًّا لإطعام الآخرين، وأنّ الحاجة لا تقتل صاحبها، بل تصيبه برغبة مذهلة في العمل.

مُدهشة جدتي التي جعلتني أذكر أهل يافا دائمًا بحب، رغم أنّي لا أعرف أحدًا منهم غيرها! مدهش كيف يمكن لإنسان واحد أن يجعلك تحفظ ملامح مدينة لم تزرها، وأن تكون قصّته الحزينة ليست مناسَبَةً للدموع فقط، بل للحب، وبشكل مختلف هذه المرّة.

هذه أول نكبة لنا دون جدتي، لا أحد بإمكانه أن يوازي بين الحزن والقوة وهو يسرد حكاية لجوئه مثلما تفعل جدتي. أكتب عنها بصيغة الحاضر لأنّ الموت لا يسلب الحكاية آثرها ولا يغير ترتيب مشاعرنا تجاه الأحداث والأشخاص. فإذا كان لديك شخص مثل جدتي فاجلس معه واستمع للجوئه واكتبه. اسأله كلّ الأسئلة التي قد تخطر على بالك، اتركه يعود طفلًا يركض في المزارع والبيّارات هربًا من الرصاص، لأن الحكايات التي تنتهي، لا تنتهي ما دامت قابلة لأن تُروى، كما تقول رضوى عاشور.


اقرأ/ي أيضًا:

فلسطينيون يعودون لـ"البلاد".. "هون دارنا"!

إسماعيل الفصيح.. رائحة بحر يافا في بحر غزة

"استعادة" كمال الجعفري ليافا.. عدالة سينمائية

ميناء يافا.. أغنية المسافر

عيد الأعياد