مع بدء كتابة كلمات هذا المقال يكون عدد القتلى الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 48 قد وصل إلى 67 قتيلاً قضوا في جرائم منذ بداية العام. والجرائم تصل حد الطقسية في التنفيذ العلني، وبعضها طائشٌ بلا أي ثمن، وغيرها بدائيٌ أو خارج مصالحٍ أو حيازاتٍ قد تبرر الجريمة. وفي المجمل هذه الجرائم تشكل ست أضعاف قرينتها في المجتمع الاسرائيلي، لماذا؟ وكيف؟ وهل نحن مجرمون أكثر؟ أو هم مدنيون ونحن بدائيون؟ ما التشخيص وأين الحل؟
الجرائم في المجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر تشكل ست أضعاف قرينتها في المجتمع الإسرائيلي
كثيرةٌ هي النظريات المفسرة للموضوع، الحالة الاستعمارية وإفرازاتها، التمييز العنصري، اللامساواة، ومع كل مصطلح من هذه ثمة تمثلات صحيحة، فالدولة التي هي استعماريةٌ آخر ما في واردها وضع حل للموضوع، وكل ما صدر عنها تقارير توثيقٍ ومن مراكز بحثية غير مؤثرة، وحتى هذه التقارير للاستهلاك الإعلامي ليس إلا.
اقرأ/ي أيضًا: قانون قديم.. نعش جديد
أحيانًا تدخل السياسة العنصرية في الموضوع، فيقول وزير ما يسمى الأمن الداخلي في إسرائيل إن السبب في هذه الجرائم هم أعضاء "القائمة المشتركة" الذين يؤخرون خطة نشر للشرطة، وهو كذابٌ طبعًا، فهذا قرارٌ لا يحتاج النواب في أي دولة، بل تنفذه الدولة بمعزل على البرلمان لحماية الأرواح.
غير أن سببًا وجيهًا أعتقد أنه أساسٌ كبيرٌ يفسر السياسة الاستعمارية الإسرائيلية، يتعلق بسلوكٍ طبيعيٍ في ميزات المستعمر، ينوي هذا السلوك دائمًا محو فكرة الوطن من عقول المُستَعمَرين، الوطن الذي يتحول من مفهومٍ إلى ممارسةٍ منظمةٍ عبر الدولة، والدولة أولى مهماتها مصادرة العنف وتحويله إلى الحماية، وتكسير هذا الاحتياجات: وطن ودولة وأمن، سيقنع شهية أي عقل احتلالي باللعبة الشرهة التي تأكل "هؤلاء الأغيار الذين جئناهم ولم يخرجوا أو ينسحبوا أو يندثروا لنبقى نحن"، أليس كذلك؟
ما يحدث الآن، قد يسميه الإسرائيلي "طبيعيًا" بعبارة أخرى "بدائيًا" لشعب لم تكن له أرضٌ ولم يكن له وطن، كان ما قبل السياسة، وكان العنف فيه طبيعيًا، وهذا المجتمع لم يصل حدود المدنية المنظمة بالدولة، فهو ليس مواطنًا في الدولة، وليس مهتمًا بمواطنته، وهو هامش وليس مركزًا، وبالتالي معالجته تقتضي أميالاً من النقاش في صفاته كمجتمع غير مدني.
وهنا قد يكون لفكرة الإسرائيلي في إدامة أو تطويل إدارة الصراع مقعدًا موسعًا، حتى لا يصل إلى فكرة إنهاء الاحتلال.
وما يحدث أيضًا يذكرنا بنظرية روسو عن العنف والمشروعية في مصادرته. ولنقلد للحظات الصوت المستعمرين: هناك عرب غير جيدين يقتلون بعضهم البعض، نحن غير قادرين على منع جرائمهم، لأنهم ببساطة لم يسلمونا مقاليد مصادرة العنف منهم، وهم لا يعترفون بشرطتنا ولا يتعاونون معها فلماذا إذن ننشغل بجرائمهم.
حول كل هذه التشخيصات، تنطلق الأصوات المنادية بالحلول، القيادي طلب الصانع سيجمع بضعة أشخاص ويرفعون اللافتات أمام مكتب رئيس وزراء الاحتلال في القدس، النواب الفلسطينيون في الكنيست سيُضمّنون أجندتهم لقاءاتٍ واجتماعاتٍ مع أجهزة الدولة لمطالبتها بالتحرك، المجتمع المدني تحت الاحتلال سيصدر تقارير تحذير، كل الماكنة ستعمل، ولكن المؤسف أنها عملت منذ سنوات، وعلى أرض الواقع يزداد عدد القتلى سنويًا، وترتفع نسبته بالمقارنة مع العنف بين الإسرائيليين، إذن ما الناقص هنا؟
من الصعب تقدير مصالح المستعمرين في إمكانية أن يقدموا خدمة الأمن والأمان لمجتمع من المُستعمرين يكافحون السلخ الثقافي والهوياتي
لا أعرف إن كانت المطالبات من مستعمر ستجدي نفعًا، ومن الصعب تقدير مصالح المستعمرين في إمكانية أن يقدموا خدمة الأمن والأمان لمجتمع من المُستعمرين يكافحون السلخ الثقافي والهوياتي بما تيسر من وجود مهمش ومستثنى.
وهنا تبرز أهمية العودة إلى سلة القيم الخاصة بالساكنين الأصليين، بحثٌ مضني عن مبادئ ومفاهيم تنتج سياسات عامة أقوى من تنظيمات المستعمرين، والمسألة ليست صعبة. قبل سنوات كتب الشيخ رائد صلاح بينما كان في السجن مقالاً في جريدة فصل المقال حول "المجتمع العصامي تحت الاحتلال".
كلمات الأسير وأحلامه البسيطة سكنتني آنذاك أنا وعدد ممن قرأوا المقال في النسخة الورقة، تعجبنا من عملية "الأفهمة"الفلسفية التي قدمها الشيخ، نريد مجتمعًا عربيًا عصاميًا، والعصامية هي أقوى ما قد نصنعه في مواجهة عمليات السلخ الاستعمارية، نريد أولادًا بلا مخدرات، وعائلة بلا ثأر قديم، وحيٌ بلا عصابة، وطائفةٌ بلا تعصب، وهويةٌ حزبيةٌ خاليةٌ من التصنيف، وتعليمٌ شعبيٌ مواز، وثقافةٌ يوميةٌ تحارب التوحش، وتكتيكات وجود في الشارع والوظيفة والمنزل خالية من تسليم مقاليد الحياة اليومية لدولة الاحتلال، هذه الدولة "المنظمة" و"الديمقراطية" والسادسة على العالم في السلاح أو في الاقتصاد، ولكنها الرافضة لإلقاء القبض على قاتل في الرملة أو الجليل.
صعبةٌ هذه الحبكة، صعبةٌ وسائلةٌ ورومانسية، لكن لنتذكر الانتفاضة الأولى قليلاً، كيف تحقق الأمن الوطني لأربعة ملايين فلسطيني في ظل حالة اللادولة، ألم تكن الحفرية النظرية هكذا؟ أمنٌ شعبي، وتعليمٌ شعبي، واقتصادٌ شعبي، وحقق هذا أكثر مما حققته الاستعمارات والحكومات.
قد يكون الحل هناك، في عصاميتنا التي بإمكان كثيرين أن يحولوها إلى "سياسات شوارع" تنتصر على تنظيمات المحتلين المؤسساتية.
اقرأ/ي أيضًا: