28-نوفمبر-2017

خيانة عرفات/ عن خيبات المسيرات الكبرى للتاريخ

في العادة أكتب بدون أي موسيقى في الخلفية، خاصة إن لم تكن كلاسيكيّة أو هادئة على الأقل، أما أن أكتب وفي الخلفية موسيقى هي ضوضاء لا أكثر، فهذا ما أسمّيه تمرّدًا عفويًا على سلطة الكلمات، على هيبتها وسطوتها الغاوية.

أن أكتب عن يوم لم أشهده واعياً، بل شهدته في لا وعيي، يعني أن أكتب عن اللاوعي، أن أسبر هذا اللاوعي، عارفاً من قبل أن أبدأ في الكتابة أنَّني لن أخلّف وراء الكلمة الأخيرة من النص، سوى هذياناً نفسياً لا أكثر.

التاريخ؛ أن ترى نفسك في نهاية دربٍ من دروب النهاية التاريخية لعصر من العصور وعلى عتبة عصرٍ آخر

مرّت علي فترة كنت مهووساً فيها بكلمة التاريخ، وربما ما زلت حتى اللحظة. التاريخ؛ أن تعبر طوراً من الزمن إلى آخر، أن ترى نفسك في نهاية دربٍ من دروب النهاية التاريخية لعصر من العصور وعلى عتبة عصرٍ آخر. أن تشعر بهذا العبور وبهذا المرور، يعني أن تكلّف لاوعيك فوق طاقته، أن تزيد من أزمتك الوجودية، أن تعمّق هذه الأزمة بقدرٍ لن تستطيع احتماله إلّا إذا ترجمت هذه الأزمة إلى كلمات أو صرخات ليلية عابرة، سكر وجودي تحت عبء أزمة حضارية لا تدرك كنهها تماماً أو مصدرها. إنما هي مسألة "عبء أزمة الحضارة" التي تنتمي إليها. فلتترجم هذه الأزمة كيف تشاء، ولك أن تحدد الفاصل الزمني لانتهائها وبدئها، ولك أن تختار طريقة ترجمة هذه الأزمة الوجودية.

اقرأ/ي أيضاً: في نقد اليسار البديل: أن تكون حليف حفاري قبرك

عرفات، ياسر عرفات، الإسم الأكثر جدلاً في مسيرة تاريخ المساكين أبناء الشياطين، منذ أولى طلقات الثورة الفلسطينية وحتى اللحظة. في نص روائي ما زلت عاكفاً على كتابته، هناك شخصية تشهد يوم وصول جثمان ياسر عرفات إلى رام الله، ويرى من حوله حشوداً من البشر الذين يستشعرون "خيانة" عرفات لهم. تقول هذه الشخصية في وصفها لذلك اليوم:

"في تلك الظهيرة، شهد الفلسطينيون خيانة عرفات الكبرى، خيانة التاريخ الكبرى، أفول مسيرة التاريخ الكبرى. لا شيءَ بعد تلك اللحظات كان كما كان من قبل. كلّ شيءٍ تراجع إلى الوراء، الوراء كثيراً. كلّ شيءٍ كان بعد ذلك الوقت، مزحة كبرى لا تحتمل، وكأن الحياة انقلبت إلى مزحة لا تصدّق. عرفات أوحى لهم طوال عمره، أنّه رجل لا يمكن هزيمته، لا يمكن قتله، ولن يموت أبداً، قبل أن يرى شبلاً أو زهرة ترفع علم فلسطين فوق أسوار القدس. عرفات جعلهم يصدّقون أنّه يَحيا كما لو كان ابن الله، ولن يهزم، أي لن يموت. كان قد صوَّر نفسه وصوَّروهُ هُم أيضاً، كما لَو أنَّه جسَدُ الفلسطيني الأوّل والأخير، رجَل يجسّد معنى، معنى يجسّد قضية، قضية تجسّد أمة، أمة تجسّد تاريخاً، تاريخاً يجسّد معنى، معنى أن تكون. أن تكون فلسطيناً، أي أنّك في بقاء دائم، في ظلّ معنى أكبر وأوسع منك، معنى أن تكون في جماعة كبرى، جماعة هائلة تتمدّد كما يتمدد الكون، جماعة تختصر التاريخ في شعبٍ واحد صغير مشتت وموزّع على أنحاء العالم، تاريخ كينونة هذا الشعب، كان عرفات يؤوّله، وقد أقنعهم أنّه ليس تاريخ كينونة شعب وحسب، بل هو تاريخ كينونة العالم.

إنّه تاريخ الوجود الإنساني المعذب، وقد خلفه الإله من ورائه ولم يلتفت إليه منذ لحظة الخلق الأولى. وقد حمل هذا الشّعب عبء هذا التاريخ، كأنّه سيزيف وقد تجسّد في شعبٍ بأكمله. وعندما حطّت الطائرات، رأى غسّان هؤلاء المجانين المساكين أبناء الشياطين، لكأنّهم إذ يحشدون دموعهم وصراخهم وتعاستهم وهم يتدافعون نحو النعش، كأنّهم يمسكون هذا التاريخ من عنقه ويلوونه كي يتوقّف عن الصراخ، كي يتوقّف عن المطاردة، كي يتوقّف عن التجسُّد".

بالنسبة لغسان، الشخصية الروائية التي على لسانها يُروى هذا المقطع المجتزأ من الرواية، فعرفات قد شكل في وجوده منذ البداية وحتى النهاية، وفي رحيله، وفي تلك الرمزيّة الكثيفة الهائلة التي تركّزت في شخصه، شكّل في موته بالنسبة للفلسطينيين، خيانة التاريخ لهم، إذ لم يعد موته متوقّفاً عليه كمصير شخصيّ، بل هو مصير شعب بأكمله. هذه هي رمزيّة عرفات في اللاوعي الفلسطيني، وهي الرمزية التي كأنها سمحت بعد رحيل عرفات، بكلّ شيء لم يكن مسموحاً أو متخيّلاً قبل رحيل عرفات.

عن "إدمان الخيال النظر إلى الوراء"

منذ زمن طويل وعرفات لم يعد إلّا استعارة عن الهويّة الفلسطينية. لم يعد عرفات رئيس السلطة الفلسطينية، ولم يعد الرجل الأول في حركة فتح، ولا الرجل الأول في منظمة التحرير، بل أصبح: استعارة الخيال الفلسطيني عن زمن فردوسيّ الصورة في مخيّلة الفلسطيينيين عموماً. وعموماً، فإن غسان، الشخصية الروائية التي تكلّمت بهذه الكلمات عن عرفات، كانت تشعر بنفسها تسقط في زمن ملوّث، أو تستشعر الزمن الملوّث الذي بدأ يتسرّب إلى الحاضر الفلسطيني في تلك اللحظة، وقد يراه البعض مكتملاً في زمننا هذا.

عرفت صديقاً أخبرني قبل مدة قصيرة، أدمن تدخين الحشيشة، أنه منذ بدأ تدخين الحشيشة لم يشعر بالخوف إلا مؤخراً، بسبب قضيّة المهندسة نيفين العواودة

شخصياً، عرفت صديقاً خرج سكراناً في ليلةٍ من الليالي وهو يبكي بسبب مقطع فيديو لذبح طفلٍ سوريّ. وعرفت صديقاً أخبرني قبل مدة قصيرة، أدمن تدخين الحشيشة، أنه منذ بدأ تدخين الحشيشة لم يشعر بالخوف إلا مؤخراً، بسبب قضيّة المهندسة نيفين العواودة. وعموماً، فإن عرفات كاستعارة عن الهوية الفلسطينية، كغيره من الاستعارات عن "الزمن الفردوسيّ" المطمئن، الزمن المليء بالأحلام. وفي الحقيقة، أن أبدأ هذا النص، في الكتابة عن عرفات، النص الذي حاولت مراراً كتابته، عن الإدمان تحديداً، يعني أنّني اخترت فاصلاً زمنياً بعده بدأت سيادة الزمن الملوّث، وتوالت المتوالية الهندسية لسقوطنا في الزمن، في زمن الخوف واندثار الأحلام والطموحات والطمأنينة للمستقبل، ومن بعده أيضاً، بدأنا نشعر بالاغتراب وأراحنا العيش في الماضي، قبل صبرا وشاتيلا، وقبل تل الزعتر، وقبل الإدراك الكامل أن زمناً كهذا لا يستحق العيش فيه.

اقرأ/ي أيضاً: الخطابات: هكذا نسد جوعنا للحرية

يقول صديقٌ لي: "الإدمان، الاعتياد، الروتين. أن أخرج من البيت بشكل يومي إلى العمل، أن أشعر بالضجر من ساعات الجلوس الطويلة في محاضرة ما، أن أشعر أنّي على وشك الاختناق من زحمة المرور والسير، أن أوشك على الانفجار من عاديّة من حولي، هذا أن أعيش في روتين يوميّ قاتل. أن أعتاد الذهاب إلى المحاضرة، أن أجد نفسي معتاداً على الاستماع بشكلٍ آليّ إلى صديقٍ أو شخصٍ أعرفه، أن أخرج من البيت بشكلٍ آليّ إلى عمل أو برنامج دراسي، هذا أن أعتاد الأشياء وأشعر بالملل. أن أدمن الجلوس لساعات طويلة في تدخين حشيشة ما، أن أدمن الجلوس لساعات طويلة لشرب مشروبات كحولية في بارٍ ما، أن أدمن الجلوس في البيت لساعات طويلة في حضور مسلسل عن واقع الأزمة الوجودية وأعيده مراراً وتكراراً، أن أدمن شرب القهوة وتدخين السجائر العادية، أن أدمن الاستماع إلى أم كلثوم أو أغنية قصيرة جداً لها لحنٌ عبقري، أن أدمن على شيءٍ ما دون الشعور بالضجر؛ وفي نفس الوقت يخدّرني عن التفكير في أزمتي الوجودية، حتى ولو كان موضوعه هذه الأزمة، لكن أن لا أشعر بالضجر، لا أشعر بالملل، لا أشعر بالحاجة إلى فعل أيّ شيء، هذا هو الإدمان".

وفي محادثة حول الإدمان والاعتياد والروتين، يقول صديق لي: "أعرف أن قضاء ست ساعات في شرب الكحول وتدخين الحشيش، أكثر إنسانيّة من مجرّد العمل على أيّ شيء آخر، ولكنّي فقط لا استطيع احتمال هذه الطريقة في العيش". إنها طريقة أولئك الذين اختاروا تدمير أنفسهم، يُعزى هذا السلوك في علم النفس إلى نزعة تدمير ذاتية في داخل البشر، يعني أن تترك الأشياء من حولك خارج السيطرة، أن تعتزل الأشياء، أن تدمن تلك الأشياء التي في نهايتها ستجد نفسك في الحضيض.

يدرك أولئك الذين تستحوذ عليهم نزعة التدمير الذاتية، محيطاً بيئياً مدمّراً لا مكان فيه لوجودهم الفرديّ الخالص، ولا وجود فيه لأيّ قيمة حقيقيّة لأي مبادرة فردية أو اجتماعية أو وطنية

لكن تعليل هذا السلوك، بالاكتئاب الفردي، بالذات المحبطة، تعليل ينقصه النظر إلى محيط مدمّر لنفسه. يدرك أولئك الذين تستحوذ عليهم نزعة التدمير الذاتية هذه، محيطاً بيئياً مدمّراً لا مكان فيه لوجودهم الفرديّ الخالص، ولا وجود فيه لأيّ قيمة حقيقيّة لأي مبادرة فردية أو اجتماعية أو وطنية. إنهم أولئك الذين أحبُّ أن أسمّيهم "فوضويُّو العالم الثالث"، الذين يمارسون وجوديتهم الخاصّة: "وجوديّة العالم الثالث"، الذين يمارسون خيانة حاضرهم مدركين خيانات التاريخ الكبرى وعبثية المستقبل، والذين اختار بعضهم أن يدمّر نفسه على طريقة الشهداء، واختار البعض الآخر أن يدمّر نفسه ببطئٍ شديد، عن طريق الإدمان.

أمام الصمت المذهل للمستقبل، وأمام الصمت المذهل للأمل في أيّ شيء، وفي خضمّ الأزمة الوجودية التي يحسُّ بها ويدركها أو لا يدرها أولئك المدمنون، فوضويُّو العالم الثالث، يرزح تحت هذا الصمت ثقل التاريخ، ثقل الأزمة، ثقل الوجود وضبابية المستقبل، ولا يبقى شيء سوى الاستسلام الكامل لعبثية الحياة.

السيطرة الاستعمارية، والسيطرة المحلّية الوطنية والاستبداد، والفساد الهائل، وفساد النفوس قبل الفساد الإداري والمالي، وفسادُ الحاضر، سطوة مشهدية السلع المادية.. أمام هذا كلّه، وتحته، شبكة الخوف الميليشيوية التي تؤمّن استمرارية هذا الوجود الإنسانيّ الفاسد في منطقة جغرافية بسيطة كالضفة الغربية وقطاع غزة، والأمر مثله ينطبق على بلادٍ أخرى. هذا كلّه، كابوس يسكن في اللاوعي الجمعي لـ"فوضويّي العالم الثالث".

عرفات، قديس الماضي، استعارة الهوية، كشهدائنا؛ قدّيسو الزمن الفردوسيّ الصورة. من نستثنيهم من واقعنا الفاسد، من نرحّلهم بسرعة قصوى إلى المخيّلة ونبعدهم عن دنس الحاضر. واعين أو غير واعين، بأنّنا بسلوكنا هذا إنما نزيد من استمرارية هذا الحاضر. ولكن كما كتب كونديراً، وكثيرون من مدمني فوضويي العالم الثالث، أخذوا هذه الكلمات شعاراً مقدّساً: "أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد".

لكن كونديراً بإمكانه أن لا يأخذ العالم على محمل الجد وهو يجلسُ مرتاحاً لا يخضع لأي سيطرة استعمارية أو استبدادية محلّية، وفوق هذا لا يمتنع عن قبول جائزة إسرائيلية للأدب. لكن هنا، في الدرك الأسفل من أبواب القمع الإنساني: لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: أن نرزح في ماضي، أن لا ننتبه للحاضر بقدر ما أمكن، أن نتوقّف عن الشعور بخيبات الأمل المتوالية، أن ندمن، ندمن النظر إلى الوراء، ندمن صور الموت، نخدّر غرائزنا، ونترك غريزة واحدة حيّة مستعرة: تدمير ذواتنا.


اقرأ/ي أيضاً:

في رثائنا نحن

لهذا عمّر أجدادنا وهرمنا في شبابنا

مكالمة فائتة من البلاد