23-مايو-2024
لوحة العزيز محمد عاطف

لوحة: محمد العزيز عاطف

في غزة بلغتْ القلوب الحناجر، وابيّضت العيون بعدما ضاقت الأرضُ بما رحُبت لتُعلن أنه "لا مُتسع" لمزيدٍ من القهر والوجع.

لا مُتسع للحزن أمام زوبعة أنباء الفقد المتتالية، وجفاف مخزون الدمع أمام جلل المُصاب، وتشنّج دافعيتنا عن المواساة أمام هوان الموت، ثمّ وإنه لا وقت للبكاء أمام مسؤوليتنا في أداء دور المتماسك، ولا مجال للانهيار في وقت ضاعت فيه معاني الإسناد، فلقد تجلّطت قدرتنا على الصراخ، وأصابنا قهر الفراق بدوارٍ مزمن. نُعزّي أنفسنا بألسنتنا فتأخذنا عبارات الرحمة وآيات الاسترجاع للتسليم المطلق بخيرية الديار البديلة. لا مُتسع لبكاء رفيقٍ سقط إلى جانبك لحظة الهروب، ولا مجال للمسة وداعٍ أخيرة حين تمسي الجريح الناجي بين عائلة من الشهداء، تدوسُ على ألمك لتضمّد جراحك، تُلملم نفسك لتنهض أمام رحلة نزوحٍ جديدة، تراقبُ انهيار أيامك مع حجارة بيتك دون أنْ يأخذ الحزن مجراه أو يُوضع في نصابه، لا مجال لأن تُقلّب شريط الذكريات وأنت تُرثي من تحب، أن تُلقي السّلام بقربٍ على قبر الرفقاء، أو أنْ تحكي عشقك للراحلين.

لا مُتسع للعلاج، وكلّنا يعاني جراح القلب، وبتر الروح، ونزف الأخوة، وإزمان المرض، ونفاد المستلزمات، ونقص الكوادر، ونُدرة الدواء، وغلاء المتوفر، وغياب الجراحة، وتصلّب التحويلات، وفقد التخصصات، ودمار المشافي، وتخلّي أشقاء البلاد، وانغلاق المعابر، وتقيّد الحدود

لا مُتسع في المقابر التي فاق أعداد الشهداء قدرتها الاستيعابية؛ ليُمسي من فيها هدفًا لتكرار الموت بالقتل مرتين، فلقد شهدت القبور على تناثر الجثث بعد اللحد، وعلى غياب الشواهد، على أرواح مزهقة دُفنت دون علم ذويها، وعلى مواراة الثرى لأجسادٍ بلا هوية، ثمّ وإنّ المقابر ضاقت بما رحُبت البلاد، فدُفن الشهداء على قوارع الطريق، وفي ساحات مدارس الإيواء، وبين دهاليز الشوارع، وفي قلب البراري المفتوحة، وإلى جانب ركام المنازل، وفي منتصف الحدائق والمنتزهات، فلقد شهد المارون بصدورهم المقبوضة على احتضان الأحياء للجثث في مقابر جماعية، على افتتاح الأراضي ووقفها كبديلٍ إنساني لإكرام الميت؛ كي لا تكون جثته خيارًا لنهش الكلاب، وتكالُب الحشرات.

لا مُتسع في المشافي التي غرقت بالجرحى، وتكدّست بأصوات الثّكالى، واكتظّت بالنازحين، وعجّت بأنّات الأطفال وآهات المرافقين، وضجّت بخطوات الباحثين عن الناجين بين غرف العمليات، وامتلأت بجوازات السفر المؤجل، والتحويلات العالقة، فالجرحى هناك رهن السرائر التالفة ومقاعد الاستقبال، سجناء بساطة المستشفيات المتهالكة، يحيطهم شبح قلة المعدات، ويقلقهم غياب الطواقم الطبية، لا تخصصية في الجراحة، ولا مكان للعابرين من المرضى، ولا خيار للمتألّم سوى القبض على الوجع حتى وإن فتك بقواه.

لا مُتسع للبحث عن الحياة، عن الحد الأدنى مما يُنجي أجسادنا من الهلاك، عن سيارة إسعافٍ تتولّى زمام إنقاذ الأرواح، عن مواصلةٍ طارئة لعجوز تتكئ على هشاشة عافيتها كي تتعالج، لمسنٍ منزوع الصحة وشابةٍ سلب الاحتلال قدرتها على المشي. لا مُتسع للبحث عن مختصٍ لجراحة عاجلة تُوقف نزف الأعضاء، ولا مُتسع للبحث عن الخضار وفاكهة العلاج، عن حليب الأطفال، وعن كيلو من الأرز أو ذرة طحين نبتلعها غير مغمسة سوى بالدماء.

لا مُتسع للبحث عن مدرسة تحتضن كراسة أبنائنا، عن مياهٍ نغتسل بها، عن فرات الماء وعذوبته النادرة، عن رغيف خبزٍ نتصوّر إلى جانبه فرحًا بلحظة الامتلاك، لا مُتسع للبحث عمّن يشحن لنا هاتفنا النقال في ظل غياب الطاقة؛ كي نظلّ على تواصل مع من نحب رغم هرم الشبكة، عن نقاط إنترنت تشفي غليلنا عبر التمكن من اللقاء وتُهدّئ من لوعة البعد باستماع الصوت. لا مُتسعْ للبحث عن بدائل للدخل بعدما تهدّمت سبله وتدمّرت وجهاته.

لا مُتسعْ للعمل بعد تحتّم الخسارة، ولا خيارات للمشاريع بعدما صُرفت الأموال على لقيمات لا ترتقي لمسمّى القوت، واحتياجات لا تُسمنُ من جوع ولا يتوفر سواها. فقدنا الانترنت ملاذنا في اختلاق الفرص وكسر الحدود بعد التواصل مع العالم. توقفت عجلة الاقتصاد عند حدود "البسطات" البسيطة في سوقٍ بات مزارًا لقياس نبض الأسعار والتأفّف من الغلاء، ومركزًا لرحلات تسوّقٍ تنتهي بلا شيء، أو ببضع أشياء لا تكفي ليومٍ واحد بعدما كان ثمنها يحقق الاكتفاء الأسبوعي.

أُغلقت الوزارات والشركات والمؤسسات والجمعيات والمراكز على اختلاف مجالاتها التجارية، والتعليمية، والفنية، والثقافية، كما أُطبقت أبواب المخابز والمناجر والمحال والمطاعم وكل شيءٍ تُحيطه إمكانية القصد وجذب المال، خسرنا عملنا الخارجي وانعدمت فرص الداخل الراكدة في أصلها بعدما احتُجزت شهاداتنا العلمية على بوابات الجامعات، أُغلقت مقرات السلطات أمام خطر الاستهداف، وأوصدَتْ وكالة غوث وتشغيل اللاجئين مداخلها أمام قاصديها، وتجمّدت الأموال عند حدود المعابر كما أحرق الاحتلال ما هو موجود؛ لتتوقف رواتب من كانوا يعتاشون على النسب ابتغاء الستر، ويُكشف حسَبهم قسرًا ليتنقّلوا بسعيهم بين طوابير المساعدات وقوائم الدعم في سبيل سد الحاجة والجوع.

لا مُتسع للتفكير أمام معاناتنا من دوامة اللّاوضوح، وإعصار الاعتقاد، لم نعد نتعرّف على شعاب المدينة، ولا على ملامح الفتوة، فلقد انعكسَ تضارب الأحداث على أدمغتنا، شغلنا تدبير اللقيمات لأمعاء الصغار حتى نسينا جوعنا، وألهتنا سبل نفض الخوف عن قلوب الأطفال حتى غفلنا عن ذعرنا، تملكتنا فكرة البقاء القسري في المنزل حتى صار يزعجنا ضوء الشمس، خطفتنا فكرة اعتياد القليل دون الاكتراث لكثرة عددنا أو التمكن من تحقيق الحد الأدنى من الاكتفاء.

لا متسع للطعام ولا لإعداده في ظل شح المكونات وأزمة الحطب، تتشابه أيامنا التي بات الزعتر يُزينها إن وُجدَ تارة، وتارةً سمّ معلبات قادمة للمساعدة في إفساد المعدة، لا مُتسع لمتعة التناول، "على الواقف" نلتهم وجبتنا بسرعة تقتضيها حالة الطوارئ، لقد تدمّرت كل معاني القيمة الغذائية، وتفتّت شهيتنا، نسينا طعم الحلاوة، تبعثَرت هيبة فن التقديم وحرارة الطهي، نجلس بين الحشائش نجمعها ونبحث عن طريقة نستسيغها بعد طبخها، اخترعنا من اللاشيء "أكل"، نجتهد في بلع لقيماتنا بلطفٍ علّها ترقد طويلًا، وتصمد كثيرًا أمام الجوع. لقد أصابنا دوار الظمأ وجفت جلودنا وشحبت عيوننا من غياب الفيتامينات، ولانت عظامنا من نقص الكالسيوم، نقطع فرحتنا "باللقيمات، ومونة الدقائق" حين يحين الهروب لننجو بأرواحنا وأمعائنا الخاوية.

لا مُتسع للتجارة فلا بضاعة تُباع ولا أخرى تُشترى، المارة "يتفرجون" بحسرة اللّاقدرة، وبعين الحاجة بلا مال، حين خسروا الأمان في التسوق، فهاجس القصف لم يرحم حتى تجمّعات موائد الطعام.

لا مُتسع للإيواء حيث تشاطر غير ذوي القربى ضيق الغرفة أمام سطوة الاضطرار للنزوح، تعيش مع "4" عائلات أو أكثر في غرفة واحدة لا يفصلكم سوى قطعة من القماش أو ساتر من "النايلون"، وإن لم تجد فلا ملجأ إلا الخيمة إن وُجدت؛ لتُمسي مكان نومك ومطبخك وسفرتك ومجلسك وأكثر دون الاكتراث للعدد، لتُصبح الخيمة فيما بعد بؤرةً لتكاثر الحشرات، وبيئةً صديقة لانتشار الأوبئة.

ثمّ وإننا لا نُطيل المكوث في أشباه المنازل عند اللجوء للأصدقاء.

في مراكز الإيواء بضعة أمتار للعيش، وبضعُ مراحيض لمئات الفئات! فكيف لعجوزٍ لا يتحكم في "عملية الإخراج" أن يرقب طابورًا لقضاء حاجته، أو مريضٍ آخر تقتله فكرة غياب الفورية عن دخول "الحمّام" وقت الاحتياج، أو طفلٍ صغير يُمسك نفسه خشية الإفلات خلال الانتظار، تشهد مراكز الإيواء على أشهرٍ من اللّا استحمام، وشح الماء، واستعارة الملابس البالية، والحياة بين القبور حيث يدفنُ النازحون من تقتله قسوة الظروف في ساحةِ المدرسة.

لا مُتسع للمشاركة في مراسم الوداع، وجنازة الدفن، لا مُتسع لأداء واجب العزاء، أو لتهنئة عروسين أجبرهما طول أمد العدوان على الزواج بلا فرحة.

لا مُتسع للمشاركة في إسعاف جرحى الجيران أمام خطر الاستهداف المتكرر، ولا في رحلات غابت عنّا رفاهيتها كليًا، لا مُتسع للمشاركة في التكاليف الجامعية والأنشطة اللامنهجية بعدما غاب الأصدقاء وماتت روح الجامعات، وبُترت معها الذكريات.

لا مُتسع للزيارة، فحيثما تولي وجهك ثمةُ استهداف ورائحة موت، فالوجهات خالية من الأمان، حال المنازل على اتساعها ضيق، الأرحام في قبضة الثرى، نتواصل بالرحمة بعدما قطّعت أوصالنا آليات الاحتلال، وأفقدتنا أرحامنا بلا نظرةٍ تُخلد اللحظة الأخيرة، ثمّ وإنه لا وقت سوى لإحماء النار، وجمع الحطب، منازلنا ملخبطة كما دواخلنا.

لا ثبات في الإقامة فقد يصبح النزوح فرضٌ لحظي بموجب الإنذار، وقد تغيب المعرفة بالقبلة بموجب الارتباك، نفترق دون وسيلة تعرّفنا مكان الوجود، التيه يحيطنا حتى في قرارات اليقين، الكل مشغولٌ بهمه، بتفقّد رعيته، بالبحث عن قوتٍ يخمد الجوع، بتفقد جزيئات بيته، وما خرج عن ظفره وجلده،، مشغولون بالتفتيش عن بقايا تفاصيل الماضي، والبحث عن المفقودين والراحلين في ظل الاعتناء بمن تبقّى من الناجين.

لا مُتسع للاجتماع، لاختلاس وقت نمرح فيه مع الأصدقاء، للالتفاف حول مائدةٍ تُطل على شاطئ البحر، أو الجلوس أمام كوبٍ من الدفء والشاي في حدائق الحب في نهار بارد.

لا مُتسع للاجتماع مع من نحب، فقد توقّفت المواثيق على غلاظتها، لا زواج للمخطوب، ولا مجال للمُقبل بأن يعقد، عجلة اللقاءات تهشّمت، الحدائق فارغة من ضحكات الأطفال وعبث الشباب، ثمّ وإنه لا مُتسع لاجتماع الطلبة على مقعد الدراسة في استراحة الغذاء، ولا لزحمة الأقدام في حرم الجامعة، ولا لمناكفات الصبية، لا متسع لاجتماع الترتيبات ليلة الفرح ولا لمشاطرة الأسى، أو لتدارس كتاب الله في ظل مأذنة المسجد، أو الاصطفاف لإقامة الصلاة خلف إمام حي نُسف بأكمله وأُزهقت أرواح كل من فيه.

لا طاقة لمناقشة خطة العمل المسلوب مع حقّنا فيه، ولا مُتسع للاجتماع على عزيمةٍ تجمع العائلة التي توزعت بين الأنساب والأصهار، ولا مجال للاجتماع حول شاشة التلفاز في موعد برنامجنا المفضّل بعد انتظار، لا مُتسع للتجمّع يوم الجمعة على ما لذّ وطاب قبيل النقاشات الأسبوعية، واستعراض جداول الإنجازات وقائمة الاحتياجات، ولا لمكالمة جماعية يأخذنا فيها اللهو كما يأخذنا العلم مع رفقاء المدرسة.

لا مُتسع للاجتماع بنيّة الذهاب للاعتكاف في ليلة القدر، أو التجهيز لليلة العيد، لا مُتسع للاجتماع حول برودة المثلجات أو حرارة "الذرة"، لا مُتسعْ لرحلة تسوقٍ لا تخلو من العصائر، لا مُتسع لاجتماع الأذواق على لباسٍ ما أو أثاث مستحدث، لا متسع لاجتماع باكورة العمل مع ماكنة الإنجاز لشهر يعج بالأحداث.

لا مُتسع للذكريات فقد أذيبت الجدران، وسُحقت النوافذ، وتفتت الأسر، وأُحرقت المفروشات، وأُتلفت الشهادات، ونُسفت الأدوات، وتهشّم الأثاث، وتمزّقت الملابس على اختلاف مناسباتها، وتبخرت الهواتف بمحتوياتها، اختفت المعالم، مات الأصدقاء، تشتّت ذوي القربى، قُتل الأحباب، غاب الأشقاء، وتحطّمت الطرقات، وقُصفت المطاعم، وجُرفت الحدائق، وضاعت بهجة الشواطئ كما فقدنا بهاء الملامح.

 

دلالات: