06-ديسمبر-2017

شبّان في مقهىً بمدينة رام الله، يتابعون خطاب ترامب عن القدس

في تعليقه على تصريحات الفصائل الفلسطينية التي تهدد بالتصعيد ردًا على خطاب الرئيس الأمريكي الذي أقرّ خلاله بالقدس عاصمة لإسرائيل، يقول المعلق العسكري للقناة العاشرة الإسرائيلية ألون بن دفيد بنبرة تهكمية على تلك التصريحات: "إنهم يهددون بمسدسات فارغة، وهم ليسوا مستعدّين لدفع الثمن الذي ستجبيه منهم إسرائيل في أي مواجهة".

واقعيًا، يبدو أنّ معلق القناة العاشرة الإسرائيلية مُحقًّا في تعليقه، ليس في نقطة الحساب، بل في مسألة الاستعداد للمواجهة. سنين طويلة مرّت والسلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية تفرّغ المجتمع الفلسطيني من أي جسم سياسي أو أمنيّ مستعدّ ولديه القدرة النفسية والمادية لمواجهة الاحتلال عند الحاجة إلى ذلك. وخلال هذه السنين، تفشّت الروح الفردية الرأسمالية في المجتمع الفلسطيني، خصوصًا في الضفة الغربية، برعاية وتوجيه من مؤسسات السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية والاقتصادية. ومن وقتٍ إلى آخر، يخرج مسؤول في السلطة الفلسطينية يدعو إلى "أيام غضب" ردًا على قرار حكومة الكيان الصهيوني.

المدينة الفلسطينية اليوم، مدينة راضخة، مطيعة، تحاكم الشهداء بتهمة المقاومة، النمط السائد من الحياة فيها، حياة العبيد الجدد، عّبَدة القانون.

السؤال الأساسي: هل المجتمع الفلسطيني، بمثابة مزحة بالنسبة للسلطة الفلسطينية؟ هل يعيشون هم في نفس الواقع الذي ينتجونه هم في الآن ذاته؟ هل يدرك هذا المسؤول، معنى: الغضب؟

أن تغضب، أي أن تكون ندًا، أن تكون قادرًا على الغضب أصلًا، أن يكون لديك روح، قادرة على استشعار ضرورة الغضب هذا.

"في مطلع سنة 1700، ثارت المشاعر في القدس عقب موافقة السلطات العثمانية على السماح لقنصل فرنسي بالإقامة في المدينة... وتم تسجيل الأمر العالي في سجل محكمة القدس الشرعية كي يستيطع القنصل مباشرة عمله في المدينة راعيًا لمصالح الفرنجة ورهبانهم في القدس، لكن ما إن انتشر الخبر في المدينة حتى قامت ردّة فعل معارضة قوية أدت إلى لإبطال أمر إقامته في القدس. حقق أهالي القدس رغبتهم ومنعوا القنصل الفرنسي الذي جاء المدينة مدعومًا بأمر سلطاني من الإقامة فيها"، عادل مناع، تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني، ص21.

يمكن لاحقًا، تسجيل حادثة تاريخية كهذه الحادثة التاريخية في كتاب تاريخ مستقبلي عند الحديث عن واقعة تركيب الكاميرات والبوابات الإلكترونية على أبواب المسجد الأقصى قبل شهور من الآن. أمّا واقعة كهذه، فيبدو أنّه من غير الممكن تسجيلها مرة أخرى، عن أهل الضفة الغربية الغارقين في أنواع متعددة من أنماط العيش والعبودية العصرية.

إن هذا النص، ليس نقدًا موجهاً لأهل المدينة، بقدر ما هو موجّه للمدينة التي تنتج أهلها.

قد تجاوزنا زمنًا كان فيه النفس الانهزامي مهيمنًا على معظم النقاشات الفلسطينية الداخلية، وقد تبدّل هذا النفس الانهزامي إلى ما يشبه هيمنةً أخرى لنمطٍ آخر من التفكير "العصري"، ألا وهو، هيمنة العاديّة في العلاقات الاجتماعية والسياسية، إنها وجهة نظر جيوش العاديين التي تجتاح وجهة النظر الفلسطينية. إنها ليست الشعار المألوف: "قد تصبح الخيانة وجهة نظر"، وليس أن تكون مهزومًا بقناعة المهزوم عن المنتصر وانبهاره بهذه الهزيمة وبذلك المنتصر. بل هي بكلمات أخرى: أن تكون عاديًا، أن تكون عبدًا للقانون، أن تكون منتصرًا لعبوديّتك.

المدينة الفلسطينية اليوم في الضفة الغربية، تنتج مجتمعًا على شاكلتها. مدينة راضخة، مطيعة، قانونية، يحكمها المكتب البيروقراطي وتحكمها القوانين التعسفية غير التعسفية. مدينة تحاكم الشهداء بتهمة المقاومة، ومدينة تحاكم المقاومين بتهمة المقاومة. مدينة تخلق الفاشية، وبحياة الفاشية تموت المجتمعات، ويصبح النمط السائد من الحياة فيها، حياة العبيد الجدد، عّبَدة القانون.

أن تخرج غاضبًا في يومٍ معدٍ للغضب بأمر رسمي، يعني أن تكون عبدًا غاضبًا. أن تخرج إلى مركز المدينة، غاضبًا بأمرٍ رسمي، يعني أن تكون عبدًا في مركز المدينة التي تنتج العبيد

ن تخرج غاضبًا في يومٍ معدٍ للغضب بأمر رسمي، يعني أن تكون عبدًا غاضبًا. أن تخرج إلى مركز المدينة، غاضبًا بأمرٍ رسمي، يعني أن تكون عبدًا في مركز المدينة التي تنتج العبيد، وغاضبٌ في الوقت ذاته. إنّها سخرية الفاشية المتعاونة مع الاستعمار، وسخرية الطبقة الحاكمة المتعاونة مع الاستعمار.

في أن تكون عبدًا للقانون، في أن تكون عبدًا للمكتب: أن تكون عبدًا، يعني أن تكون عاديًا أولًا، والعادي في المعجم الوسيط، العاديُّ هو اسم منسوب إلى عادة: أي بسيط، مألوف، معهود، غير مجاوز مستوى عامّة النَّاس. وما هو فوق العادي: أي أنّه متجاوز للمستويات العاديّة لكنّه لا يتجاوز الحدود الطبيعيّة.

الشهداء ليسوا عاديين، كذلك المقاومين. الأسرى ليسوا عاديين. العادي ببساطة، أي أن لا تعمل عقلك في التفكير فيما تسمع أو ترى. وهي المرحلة الأولى في أن تكون عبدًا للقانون، أي أن تنفّذ ما يُملَى عليك من غيرك، دون أن تُعمل عقلك في التفكير فيما تسمع أو ترى. هكذا، تكون عبدًا للقانون. هكذا، تقبل حقيقة محاكمة الشهداء على أن تسقط التهم عنهم في الجلسة الثانية. وبهذه الطريقة، تقبل حقيقة محاكمة المتهمين بالمقاومة بحجة حمايتهم من الاحتلال وإخلالهم بالأمن العام. وهكذا تقبل حقيقة أن تخرج غاضبًا أو مناصرًا بحسب المزاج الرسميّ العام.

مرةً أخرى، إنها سخرية الفاشية المتعاونة مع الاحتلال وبؤسها الذي تعدّى حدود الوقاحة المقبول بها.


اقرأ/ي أيضًا:

عزمي بشارة: المدينة الغائبة

روابي المدينة: قلق خصاء وتماهٍ.. وأشياء أخرى

المدينة الفلسطينية على الشاشات الإسرائيلية.. آخر انبساط!