باسل رزق الله، ونور الدين أعرج
كل شيء كالمعتاد، إعلان نقاش الرسالة، وما يستلزمه من إجراءاتٍ وفق أنظمة الجامعة، ومن ثم قاعة نقاش، أوسع قليلًا من المألوف في النقاشات السابقة. الأهل حاضرون والأصدقاء والطلبة المهتمون الذين يمكن لهم حضور النقاش بحسب الإعلان، وباقة ورد، ولجنة نقاش، أمّا الطالب، فقد غاب.
كان هذا نقاش رسالة الماجستير التي كتبها الأسير زكريا الزبيدي في جامعة بيرزيت، والمعنية ببحث المطاردة والمطاردين في فلسطين منذ 1968 وحتى 2018. وهي رسالة لم تتضمن، في شقها المكتوب على الأقل، المطاردة التي تلت عملية تحرر الأسير نفسه من سجن جلبوع عبر نفق "الطريق إلى القدس"، كما أسماه الأسير محمود العارضة قائد عملية الهرب من سجن جلبوع، رفقة الزبيدي ويعقوب قادري ومناضل انفيعات ومحمد العارضة وأيهم كممجي.
كانت صورة زكريا الزبيدي هي الحاضرة في القاعة، وصل الطالب مُبكرًا، وبقي مقعده فارغًا، تتربع عليه صورة له هي الأحدث
بدا المشهد مرتبًا بعناية، مأثثًا بالغياب وربما بالحضور المفرط. صورة زكريا حاضرة في القاعة. وصل الطالب مُبكرًا، لكن مقعده بقي فارغًا، تتربع عليه صورة له هي الأحدث أمام لجنة قضاة إسرائيلية في محكمة الاحتلال.
الساعة العاشرة صباحًا في مسرح جامعة بيرزيت. تجربة الصوت الأخيرة، الكل في مكانه، وصورة الزبيدي حاضرة، تنظر لها عائلته فخورةً بتخرج ابنها. وعائلة الزبيدي في الغالب تعرف معنى هذه الصورة، وربما تُجيد مخاطبتها، وهي الصورة التي يتكثف فيها حضور أفراد العائلة الغائبين إمّا للأبد أو مؤقتًا. الصورة التي علت المسرح، تتناسل منها صورٌ أخرى وبوسترات عدة، تحكي تاريخ العائلة على مدار 20 عامًا. فقبل شهرين فقط، رُفع ملصق جديد لشقيقه الشهيد داود على منزل العائلة اللاجئة من مدينة قيساريا، وألصقه الشبان على جدران منازل المخيم، إلى جانب ملصق أخيه الشهيد طه ووالدته الشهيدة سميرة.
الصورة ذاتها كانت حاضرةً في اليوم السابق للنقاش، خلال حفل تخرج الزبيدي من الجامعة. في الحفل نفسه، حضرت صورة أخرى تمثل نوعًا آخر من الغياب. فقد رفع الطلبة صورةً للطالبة كلارا وليد، التي أنهت مساقاتها الجامعية في درجة الماجستير، وقررت زيارة عائلتها في قطاع غزة ثم العودة لحضور حفل التخرج، لكن "إسرائيل"، قررت منعها من الحضور. إلى جانب هذه الصورة، كان الطالب الخريج من كلية الإعلام زكريا حماد، هو الآخر يحتضن صورة أمه الشهيدة مهدية، التي قتلها الاحتلال في بلدة سلواد قبل سنوات. كما حملت طالبة الإعلام رند الريماوي صورة والدها الذي غاب 20 عامًا في السجون بعد أن كان طالبًا في نفس الجامعة. الأمر نفسه، فعله زميلها في الكلية عبادة طحاينة الذي ينتظر تحرر والده بعد أقل من شهرين بعد 19 عامًا من الأسر. صور كثيرة لغائبين كثر، شكلت مجتمعة سردية بصرية للمعاناة الفلسطينية على مسرح جامعة بيرزيت.
لم يكن زكريا حاضرًا رغم سجنه في جامعة بيرزيت فقط، بل حضرت جامعة بيرزيت في زنزانة زكريا، الذي استمع إلى نقاش الرسالة عبر صوت إذاعة محلية. حضور يتراوح بين الرمزي والفعلي، بل ويسخر ربما من الفاصل المفترض بينهما. في مشهد كان انقلابًا على كل هذه الفواصل، بين الرمزي والفعلي، وبين الداخل والخارج، وبين النظرية والممارسة.
أما الرسالة، فقد حملت عنوان "الصياد والتنين: المطاردة في التجربة الفلسطينية 1968-2018"، ومثلت جزءًا من تجربة الزبيدي، كما 26 مطاردًا قابلهم من أجل إتمام أطروحته. بحثت الرسالة في تجربة المطاردة في فترة ما بعد استكمال احتلال فلسطين عام 1967 حتى عام 2018. وتجاوزت السجالات الطويلة حول النظرية والممارسة، والفكرة والعمل، وأيهما يسبق الآخر، فقد كانت عملية الكتابة متوازيةً مع الممارسة ومفتوحة عليها، وهو ما أكد عليه زكريا بكتابة نصف الرسالة في السجن عقب اعتقاله في عام 2019. فيما قرر، أن يزيل النقطة الأخيرة من رسالته، حسب ما طلب من مشرفه، عبد الرحيم الشيخ، في آخر تواصل بينهما، ليترك الأطروحة مفتوحةً على احتمالات كثيرة. احتمالات نقلها إلى الواقع مع رفاقه الخمسة الذين تحرروا من سجن جلبوع في أيلول/سبتمبر من العام الماضي.
تحتوي رسالة الزبيدي على قصصٍ مختلفة لمطاردين فلسطينيين، يحاول من خلالها أنَّ يستعرض التجارب الفلسطينية حول المطاردة والاختفاء، وأنّ يقلب بها الثنائيات الرائجة حول فعل الهروب، كما يقول. فيصبح فعل الاختفاء في سياقٍ استعماريّ، خطة استراتيجية لتمديد الوقت الذي يستطيع به المُطارَد أن يلحق الأذى بمطارِده. أي باختصار لا تصبح المطاردة عملية هروب بقدر ما هي عملية مواجهة، كما وصفها دكتور الفلسفة في جامعة بيرزيت جمال ظاهر أثناء نقاش رسالة الزبيدي. يؤكد الزبيدي على هذا، في فصلٍ من رسالته الذي نشر في مجلة الدراسات الفلسطينية، حين يستعرض تجربته الشخصية، ويروي محاولته تأجيل عملية الإمساك به، أو تمديدها. والمطاردة كما يصورها، هي تفاوض يومي مع الموت.
ينتقل بنا زبيدي بين الخاص والعام، وبين الميدان والنظرية، وتحضر هذه الثنائيات على امتداد النص
ينتقل بنا زكريا بين الخاص والعام، وبين الميدان والنظرية، وتحضر هذه الثنائيات على امتداد النص. يتحدث زكريا عن عائلته وطفولته في المخيم. يقول: "كنت أسمعهم يتحدثون عن رجال الدين والماركسيين والقوميين العرب وحركات التحرر في العالم. كنت طفلًا أسمع ولا أفهم، لكنني كنت أحاول ربط ذلك بما يجري على الأرض من أحداثٍ شكلت في مجملها ذاكرة غنية سمحت لي، حين كبرت وقرأت، بأن أسقطها على واقعي".
وعائلة الزبيدي تتوزع على مخيمات اللجوء، جزء صغير منها يتواجد في مخيم جنين، وقدم 6 شهداء، وسنوات طويلة من حيوات أبنائه في سجون الاحتلال. فقد دخل تقريبًا كل أفراد العائلة السجون من جد زكريا حتى والده وكل إخوته. وإذ كان قد ورث من جده لأمه محمد جهجاه عملية الهرب من السجن والمطاردة، فقد ورث من والده الذي حمل البكالوريوس في اللغة الإنجليزية، انشغاله في العمل المقاوم. أمّا اللغة الإنجليزية فلم يحصل عليها من والده وبقيت علاماته فيها متدنية من الابتدائية وحتى الدراسات العليا، كما يقول. وكان والده هو الذي استقطبه إلى حركة فتح لاحقًا حاسمًا التنافس مع عمه الذي حاول تنظيمه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في أيام الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
ومنذ ما يزيد عن 30 عامًا، لم يجتمع شمل العائلة الصغيرة إلا في صور، من اعتقال الوالد والأبناء جميعًا على فترات متقطعة ولسنوات طويلة، إلى استشهاد الأم واثنين من الأبناء لاحقًا.
في الفصل الأخير من رسالته، يروي الزبيدي تجربته الاعتقالية الثانية، التي كانت مدتها 4 سنوات ونصف، وخرج قبل نهايتها بخمسة أشهر، ونقل على إثر اتفاقية أوسلو إلى أريحا، وهناك بدأ مساره القصير في العمل ضمن الأجهزة الأمنية. ولأن الحكم الذاتي كان يكتفي بغزة وأريحا بدلًا من فلسطين، فقد كان ممنوعًا على من نُقل إلى المدينتين بعد الإفراج عنه، الخروج منهما، لكن الزبيدي قرر الهرب. وعن ذلك يقول: "هربت من مخيم الـ"كارفانات" متجاوزًا جميع الحواجز الإسرائيلية التي كانت على مداخل أريحا، واتجهت متسللًا إلى بيتي في مخيم جنين"، وهناك تخفى الزبيدي حتى وصلت سلطة الحكم الذاتي.
عودةً إلى قاعة النقاش، وإلى الالتئام الرمزي والفعلي بين الخارج والداخل. انضم الأسير وليد دقة إلى لجنة نقاش الزبيدي، من سجن الاحتلال بعد غياب 36 عامًا. بينما كانت ابنته، التي استطاع إنجابها بعد تهريب نطفه من وراء أسوار السجن، حاضرة أيضًا. صور كثيرة، سوى صورة الزبيدي، احتضنها مسرح جامعة بيرزيت، مشكلة معًا اعتراضًا بصريًا على فانتازيا الشرذمة الاستعمارية.
بقيت مقولات الزبيدي السياسية ثابتة لكنه صقلها في دراسته ومطاردته. ففي مقطعٍ مصور للزبيدي في الغالب تم تصويره قبل عشر سنوات، يقول: "طالما لم تكن حرًا لن تستطيع بناء دولة"، منتقدًا السلطة الفلسطينية ورئيسها. وهو ما ظهر أوضح في رسالته عندما استعاد ارتباك شبابه مع أخبار قتل الانتفاضة الأولى والهرولة الفلسطينية الرسمية نحو مشروع السلام، قائلًا: "بدأت تظهر معالم سياسة جديدة نحو "السلام"، أو بمعنى أدق "الاستسلام". شعرت بتناقض بين عقلية الثائر الذي يدرس الثقافة الثورية القائمة على أن الكفاح المسلح هو استراتيجيا وليس تكتيكًا، وبين ما يصلنا من أخبار عن طبيعة المرحلة المقبلة التي ستقضي على التعبئة الثورية، وحتى على إمكان الثورة".
انتهى النقاش، احتفلت العائلة، أجرت عدة مقابلات صحفية، واستقبلت التهاني، وقبل أن يعود زكريا إلى بُرشه ويشعل سيجارته ربما، التقطت العائلة صورةً مع صورة زكريا، كالمعتاد.