16-أكتوبر-2019

(Jaafar ASHTIYEH / Getty)

أعجز عن حسم الطريق الأفضل من البيت إلى العمل. كل يوم أسلك طريقًا مختلفًا.

من أين يأتي كثيرون بالقدرة على إبداء رأي قاطع في كل شيء، كل شيء تقريبًا، دون أن يرفّ لهم جفن؟!

ولا أقصد القدرة هنا الفراغ والتسلية، بل أقصد المعرفة التي تؤهل امرأً ما للفُتيا!

حتى الآن، لستُ متأكدًا إن كانت زيارة المنتخب السعودي مفيدة أم لا، لنا كفلسطينيين على الأقل، باعتباره منتخب دولة تقتل شعبًا شقيقًا ومحبًّا لنا، ظلمًا وعدوانًا، ودون أن نتمكن من التضامن معه، ولو برفع علمه أو صور ضحاياه في الملعب، مع ما يعنيه ذلك أيضًا من سؤال مفتوح حول التطبيع وتعريفه الملتبس، بحكم التباس كل تفاصيل حياتنا وإقليمنا.

السعودية أكبر داعم لنا، ماديًّا، وهي أيضًا ممر العبور الرئيسي لصفقة القرن.

لقد أقامت السعودية الدنيا وأقعدتها عام 2015، وفي مثل هذه الأيام، لأن فلسطين أصرّت على أن اللعبة بين المنتخبين في ملعبها البيتي، ملعب فيصل الحسيني، الذي لعب عليه المنتخبان أمس (15/10/2019)، المباراة ذاتها، المؤهلة لكأس العالم.

     بين براغماتية اعتدناها، وراديكالية نتغنى بها، ونحاول تمثّلها؛ تتزأبق الآراء، وتجد نفسك أمام خيارين، كلاهما سمّ زعاف. واشرب، ولو متّ    

أيامها، أعلن الاتحاد السعودي رفضه القاطع اللعب في الضفة، باعتبار دخول المنتخب الضفة تطبيعًا مع إسرائيل. وقد أنهى تدخل الرئيس محمود عباس وولي العهد السعودي محمد بن سلمان الجدل، وتنازل الفلسطينيون عن ملعبهم البيتي، كرمى لـ"العلاقات الثنائية"، وهي جملة تحتمل من التأويل الكثير.

ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم، لم تجرِ أي مياه في نهر الوضع القائم، فقد مرّ المنتخب السعودي في زيارته الأخيرة عن الحواجز الإسرائيلية غير مرة.

وتُحاجج السلطة الفلسطينية باستمرار بأن السعودية، من الدول القليلة الملتزمة بدفع حصتها لفلسطين لدى الجامعة العربية، إضافة إلى الدفعات الطارئة التي تقدمها المملكة، كلما مرّت السلطة بضائقة مالية.

ستبدو هنا مقولة "الحرة لا تأكل بثدييها" ترفًا زائدًا، فهناك ملايين الفلسطينيين بانتظار الرواتب، على وقع خفوت مفعول الشعار الوطني، لغير سبب، منها فقدان الثقة بقدرة النظام الفلسطيني على الصمود الحقيقي، واستغلال الصبر والفقر والألم، وهو ما ظهر جليًّا في أزمة المقاصة الأخيرة، التي صعدنا فيها سلمًا عاليًا، ثم قفزنا، فانكسر حوضنا، وأقعدنا حتى عن محاولة تبرير هذه القفزة.

وليس أمامنا إلا السعودية، التي بيدها مفتاح المال كله.

بين براغماتية اعتدناها، وراديكالية نتغنى بها، ونحاول تمثّلها؛ تتزأبق الآراء، وتجد نفسك أمام خيارين، كلاهما سمّ زعاف. واشرب، ولو متّ، لأنك ستقنع نفسك أنك اخترت –بشجاعة- موتتك.

حتى حكاية الضرب في المدارس، التي تفجرت في اليومين الماضيين عقب نشر فيديو لأستاذ يضرب طلبة، فهي أمر ذو وجهين، أو أثرين، ولا أستطيع إصدار حكم قِيَميّ عام وحاسم إزاء هذا السلوك، سواء كان فرديًّا أو حتى ممنهجًا، بمعزل عن منظومة سلوكية كاملة أو سياق سياسي واقتصادي واجتماعي وتربوي.

لا يمكن أن تقبل بالضرب كأسلوب تربوي اندثر وبدا أن مساوئه أكثر من محاسنه، وفي ظلّ جيل من المدرسين نشأ وترعرع في ظلّ قهر احتلالي واقتصادي، وقد يبدو سلوكه "التأديبي" نوعًا من تفريغ كبتٍ راكمه طول عمره. لكنّك لن تقبل أيضًا أن يركن الطلبة إلى أن المدرس مكبل، في ظل أهل لا يعرف بعضهم في أي الصفوف يدرس أبناؤهم، وفي ظل منظومة لا توفر للمعلم أدنى أساسيات حفظ الكرامة، لا بالمعنى المادي وحسب، بل أيضًا بالمكانة التي يجب أن يُحفظ فيها المعلم محترمًا كريمًا وقد وفّاه المجتمع التبجيل.

الأمر معقد.

لقد مات النحوي الشهير الفرّاء قرابة عام 210 للهجرة، وكان أشهر أهل عصره في علم النحو، ومع ذلك، فقد روي عنه أنه قال: "أموت وفي نفسي شيء من (حتى)". و"حتى" هذه ترفع وتنصب وتجر.

كان كلام الله وشعر العرب أمامه، وظلت "حتى" هذه تؤرقه، وهو من هو!

وما زال الصراع قائمًا حتى اليوم بين قوم يرون الصواب كتابة "إذن"، وآخرين يرونه في كتابتها "إذًا".

لا أبيض هنا ولا أسود.

المنطقة الرمادية مرعبة وواسعة جدًّا، ومليئة بالمطبات 

كلما قرأت رأيًا حاسمًا هنا، تحسست رأسي، وتأملت في الرأي، فرأيت فيه صوابًا وخطأ. وإذا نظرت إلى نقيضه، رأيت الأمرين أنفسهما.

هذا لا يعني إبقاء الباب مواربًا على ميوعة الرأي أو الانصياع للجمهور، ممالأة ولا حتى مناوأة، بقدر ما هي محاولة للتفكير ألف مرة، قبل اتخاذ موقف حاسم إزاء أمور إشكالية، ولو بدت ذات وجه وطني أو أخلاقي بيّن، ويسهل حسم الموقف منها.


اقرأ/ي أيضًا: 

أول الثورة.. تعريف "أصل الشر ومصدر البلاء"!

أحزاب تتنكر لحقوق إعلاميها عند تسريحهم

هل يبقى الفلسطيني وحيدًا في زنازين النظام المصري؟