رغم الظلم والتعسّف الذي عانت منه المرأة في فلسطين بشكل عامّ، إلّا أن نساء ناحية "مشاريق البيتاوي" في القرى الواقعة جنوب شرق نابلس، استطعن قبل 160 عامًا، انتزاع مكانة مرموقة في مجتمع يُعرف بالصفة الذكورية والسلطة الأبوية آنذاك.
قصص موثقة تشير إلى دور اقتصادي مميز للمرأة، وأن حضورها في الحياة اليومية شرق نابلس لم يكن استثناءً، أو حالة نادرة
فعلت النساء ذلك في حينه، من خلال حضور ودور فاعل في عجلة الاقتصاد الأسري، سواء كُنّ من العزباوات أو المتزوجات، الأمر الذي عكس أهمية ومركزية دورها في الأسرة والمجتمع، وعزز من حضورها في الحياة اليومية.
اقرأ/ي أيضًا: نسوة الشالات السود
بعض النساء الثريات كُنّ من أصحاب رؤوس الأموال، وقد عملن في التجارة بيعًا وشراءً، ومنهن من عملن بالأجرة لدى آخرين، وتملكت أُخريات عقارات كانت ركيزة أساسية في الحياة آنذاك مثل معاصر الزيتون، ومطاحن القمح، وحقول زيتون، بالإضافة لثيران الحراثة، وفق ما تشير سجلات محكمة نابلس الشرعية.
وكان للعديد منهم دور بارز في تحصيل أو سداد ديوان أفراد العائلة بعد وفاتهم، ومنهن من قامت برهن ممتلكاتها في سبيل توفير وضع اقتصادي مناسب للأسرة، وكفلت آخرين لدى التجّار في المدينة.
واحدة من تلك النماذج، كانت فضية عبد الله أحمد الصلاح، من بيت فوريك، فهي امرأة كانت ثرية جدًا، تعمل في تجارة زيت الزيتون والملابس النسائية والرجالية، وكانت بمثابة بنك، إذ تعطي مبالغ مالية لمزارعين من ذات القرية بطريق السَلَم الشرعي مقابل زيت الزيتون مع فترة سداد طويلة، وأعطت قروضًا نقدية شخصية، وظلّت تعمل كذلك حتى (19 كانون أول/ ديسمبر 1914).
النموذج الثاني، هو للسيدة، حمدة جراد الخاطر، من عقربا، والتي كانت من أصحاب رؤوس الأموال، وانحصر مجال عملها في تجارة حبوب القمح والشعير، مقابل إعطاء مبالغ نقدية بطريق السَلَم الشرعي لمزارعين من عقربا وقبلان وبيتا ولفترات سداد طويلة، من هنا فقد كانت معروفة بالناحية، وكانت تمارس عملها حتى يوم 4 آذار/ مارس 1885.
أمّا في سوق العمل، فقد أظهرت السّجلات عددًا كبيرًا من النساء اللواتي عملن بالأجرة لدى كبار المُلاك والمتنفذين والأغنياء.
اقرأ/ي أيضًا: الاستيطان في مشاريق نابلس: قصة بدأت باكرًا
وأورد سِجّل ضريبة العُشر لأحمد جبر، وهو آخر ملتزم للضريبة في ناحية البيتاوي، جدولًا فيه أسماء نساء عملن في جمع محصول الفول والدخان وحصاد القطاني وتعشيب المزروعات، وإزالة الأعشاب الضارة من بين الزرع، وذلك في حقول عقربا وروجيب وبيت فوريك وبيت دجن والغور. فأشار كاتب السجل إلى بنات عليان، وبنات موسى الخطيب، بشكل يدلل على علاقة عمل ليست حديثة العهد.
كما عملت بعض النّساء بشكل مستقل، إذ كُنّ مالكات لأراضٍ زراعية، ودفعن الضريبة لأحمد جبر، مثل: حمدة الصالح، وفضية العبس، وثالثة أُشار لها الكاتب باسم "بنت محمود"، وأخرى تابعت العمل بعد وفاة زوجها، سجّلها الكاتب تحت اسم "زوجة عفانة" من روجيب، وذلك سنة 1874.
وحازت كثير من النساء على أموال وأملاك وقمن بتوسيعها وزيادتها، فنرى مثلًا "فاطمة عوض الله" من بيت فوريك اشترت حصّة مقدارها 4 قراريط من معصرة زيتون النصاصرة في القرية بقيمة 2700 قرش، وكانت تملك 30 جرّة زيت، قيمة كل جرة 45 قرشًا، والجرة نوعان؛ الصغيرة 9 كيلوغرام، والكبيرة 21 كيلوغرامًا، وكان تحت يدها مبلغ مالي نقدي مقداره 10 آلاف قرش.
اقرأ/ي أيضًا: "تشبارة" الفلاحين.. صناعة حققت اكتفاءً ذاتيًا قبل قرن ونصف
وكمثال آخر على الثراء المتوسط، تشير السجلات إلى امرأة أصولها من يانون شرق نابلس، واسمها "فضة مصطفى المالك"، وتزوجت من أسعد عبد القادر من بيت دجن، وقد ورثت حصة زوجها في طاحونة القمح المعروفة بطاحونة التوم في وادي الفارعة، وباعتها لاحقًا إلى تاجر من نابلس هو أحمد حسين طبيلة بمبلغ 800 قرش.
لندرك قيمة هذه الثروة مقارنة بعصرنا الحاليّ، يكفي العلم أنّ المصروف اليومي للأسرة آنذاك تراوح بين 1.5 - 3 قروش، كما حددته المحكمة الشرعية
وفي مثال آخر على حضور المرأة، عملها على تأمين مستقبل أولادها، فنرى مثلًا أن خضرة سرحان المالك من عورتا، قد اشترت لولديها القاصرين آنذاك يوسف وعبد الرحمن أولاد عواد القصوبية المتوفى، حصة مقدارها 4 قراريط من معصرة الزيتون في ذات القرية بمبلغ 750 قرش.
وكان لبعض النساء حضورٌ متجذّر في سوق التجارة المحلية المرتبط بمدينة نابلس فكان لهن كلمة مسموعة، ما مكنهنّ من كفالة آخرين لدى بعض التجار. فمثلًا في يوم (8 تشرين أول/ اكتوبر 1872)، كفلت خضرة عبد الله الجيتاوي من قرية سالم، زوجها خالد الجيتاوي، وبإذنه، بمبلغ 375 قرشًا لدى عبود مصلح، وهي ثمن بضاعة شامية كان زوجها قد اشتراها قبل 7 سنوات من ذلك التاريخ.
ولعل من أكثر القضايا المسجلة تكرارًا هي تلك المتعلقة بتحصيل الديون وأثمان محاصيل المزارعين أو سدادها. واتخاذها شكل دعاوى في المحكمة ليس سوى إجراء لتحقيق أهداف منها تسجيل عملية دفع الديون لأصحابها، وضمان عدم مطالبتهم بها مرة أخرى، وعمل حصر الإرث لذوي المتوفي.
فمثلًا قامت فاطمة حمدان المصطفى من بلاطة برفع دعوى على صادق حسن زيد القادري يوم (10 آذار/ مارس 1889)، وطالبته بمبلغ 20 قرشًا هي ثمن طبّة حنطة حوالي 10 كيلوغرام، لزوجها المتوفى أثناء الخدمة العسكرية في الجيش العثماني عبد الجبار إسماعيل مصطفى العبد الله، وهو أصلًا من روجيب وقاطن في بلاطة.
اقرأ/ي أيضًا: الاستقبالات النابلسية.. رحلة في عالم النساء المنسي
كما قامت صبحة خليل مرعي الخواجا من عقربا برفع دعوى على عبد القادر أسعد العبد الصرميطي يوم (19 آذار/ مارس 1890)، وطالبته بمبلغ 10 قروش هي ثمن طبة شعير لابنها المتوفى أثناء الخدمة العسكرية، حلو محمد عبد ربه.
وأيضًا قامت صفية عبد الرازق السيّد الشرفا من بيتا، بسداد ديون زوجها صالح العديلي المتوفى في يوم (23 تشرين أول/ اكتوبر 1878) وقيمتها 36 جرة زيت، كان زوجها أخذ مبلغ نصف ليرة فرنسية في كل جرة بطريق السَلَم الشرعي قبل حوالي 14 سنة خلت من حسن محمد النابلسي.
وفي يوم (9 تموز/ يوليو 1883) سددت صافية محمد اليعقوب من جالود، مبلغ 230 قرشًا هي ثمن عباءتين لأولادها محمد وعواد أبناء عودة، كانا قد اشترياها يوم (12 شباط/ فبراير 1881) من محمد قاسم الناصر، وقد توفيا لاحقًا.
ومن الأمثلة الأخرى أنّ محمود أحمد عثمان، مزارع لديه حقل زيتون، وتاجر وصاحب بقاله من عورتا، توفي يوم (9 تموز/ يوليو 1884)، وقامت زوجته نجمة علي عثمان سليمان بسداد ديونه إلى تُجّار من نابلس. ففي يوم (8 أيلول/ سبتمبر 1884) دفعت إلى عباس محمد شحادة الخماش مبلغ 1400 قرش هي ثمن خمسة أقفاف أرز دمياطي، تساوي القفة حوالي 70 كيلوغرامًا. وفي يوم (26 تشرين ثان/ نوفمبر 1884) دفعت إلى حسن محمد أحمد النابلسي 30 جرة زيت زيتون كان زوجها أخذ فيها سَلَم شرعي بـ40 قرشًا لكل جرة، إضافة لمبلغ 388 قرشًا كان أخذها زوجها كقرضٍ شخصيّ.
مراجع:
- أوراق خاصّة، أحمد جبر، بيت فوريك، 1298- 1291
- سجل محكمة نابلس الشرعية.
اقرأ/ي أيضًا:
المهور حين كانت قمحًا أو ثورًا أو أرضًا..