11-يوليو-2019

نشرت مجلةٌ بحثيةٌ تحمل اسم "ساينس أدفانسز" (Science Advances) في عددها الصادر في 3 تموز/ يوليو 2019 (مجلد 5، عدد 7)، دراسة علمية بعنوان: “Ancient DNA sheds light on the genetic origins of early Iron Age Philistines”. استنتجت فيها بأن سكان مدينة عسقلان؛ المطلّة على البحر الأبيض المتوسط وتقع في الجهة الغربيّة من مدينة القدس، شهدوا تغيرًا ثقافيًا ملحوظًا خلال فترة العصر الحديدي (500 – 1200) قبل الميلاد. وقد اختبر الباحثون هذا التغير من خلال فحص جينات عشرة أفراد عاشوا في عسقلان خلال فترة العصر البرونزي المتأخر والعصر الحديدي المبكر (1600-500) قبل الميلاد. وربط الباحثون نتائج دراستهم بحصول هجرة طبيعية بدأت في أواخر العصر البرونزي ومطلع العصر الحديدي وتعرف تاريخيًا باسم هجرة "شعوب البحر"، ورأت الدراسة بأن هذه الجينات لم تعد قابلة للبحث في السنوات الأخيرة من العصر الحديدي.

طُرحت مسألة دراسات الحمض النووي أو الجينوم البشري في العالم في عدد هائلٍ من المؤلفات والكتابات، وبرزت هذه الدراسات تحديدًا مع نهاية عام 1980

في نقد علم الجينوم

طُرحت مسألة دراسات الحمض النووي أو الجينوم البشري في العالم في عدد هائلٍ من المؤلفات والكتابات، تركّز الجزء الأكبر منها على توفير الاحتياجات الضرورية للإنسان، باعتبارها تعمل على تحسين وتطوير سلالاتٍ متعددةٍ من الحيوانات والنباتات التي تساعد على توفير مصادر الغذاء الرئيسية للإنسان.

اقرأ/ي أيضًا: الفلسطيني المُلثم بعد 10 آلاف سنة.. الحفيد يُشبه جده

برزت هذه الدراسات تحديدًا مع نهاية عام 1980، ولا سيما مع إطلاق مجموعةٍ من الدول من بينها إسرائيل أكبر مشروع بحثي يسعى إلى رسم خريطة الجينوم البشري، وذلك بهدف حصول هذه الدول على معلوماتٍ دقيقةٍ عن جينات الإنسان تساعدها في السيطرة على عملية تطوير قطاعات الصحة والصناعة والزراعة وغيرها من المجالات ذات الصلة.

من جهة أخرى، لاقت هذه الدراسات نقدًا لاذعًا، وتحديدًا لتلك المرتبطة بأصل الإنسان ونسبه، فقد عاب الدراسات النقدية في علم الجينوم البشري، اهتمام باحثي هذا العلم بمسألة التمييز العرقي بين الناس، وقد التزمت الدراسات النقدية بالأسس الأخلاقية كمدخل قيّمي في عملية نقدها لدراسات علم الجينيوم.

وعلى الرغم من أهمية دراسات علم الجينوم، فقد أدت هذه الأعمال البحثية إلى جمودٍ معينٍ في علوم أخرى مثل: "علم الوراثة"، وهو العلم المتاح بشكلٍ أسهل بالنسبة للعديد من دول العالم، ولا سيما دول العالم الأقل نموًا، مقارنة بعلم الجينوم المحدد بنحو 18 دولة في العالم من بينها إسرائيل. أضف إلى ذلك، فإن الاهتمام بدراسات علم الجينوم، ولا سيما تلك الدراسات التي خُصصت لبحث الإنسان ونسبه وأصله، أثارت العديد من المشكلات الأخلاقية والفقهية والاجتماعية والفلسفية، وتحديدًا مع تركيز هذه الدراسات على مسألة "التقنية البيولوجية" وقدرتها على إخضاع جسد الإنسان الحي للتكنولوجيا، وممارسة الهيمنة على جسده الحرّ. فهذه المسألة، أي انتهاك جسد الإنسان تقوّض استقلال الإنسان، وهو ما يهدد الأخلاق في حد ذاتها، فإذا انتُهكت استقلالية الإنسان فمعناه بلا شك انتهاكٌ لحرية الإنسان وسلب لإرادته وتعدٍ على ذاته، وهذا في حد ذاته موقف لا أخلاقي يُعاب على دراسات علم الجينوم.

دراسات علم الجينوم أثارت العديد من المشكلات الأخلاقية والفقهية والاجتماعية والفلسفية

ماذا تقول الدراسة؟

في دراستهم المنشورة في مجلة "ساينس أدفانسز"، قام الباحثون القائمون على الدراسة وعددهم تسعة ويعملون في جامعات ألمانية وأميركية وكورية جنوبية، من أجل اختبار فرضيتهم باستخراج الحمض النووي من 108 أشخاص من مدينة عسقلان، 10 أشخاص فقط هم من نجح الباحثون باختبار حمضهم النووي وأعطوا كميات كافية، ثلاثة منهم من العصر البرونزي وسبعة من العصر الحديدي.

خلال عملية البحث، عمل طاقم الدراسة عن البحث باختلافاتٍ جينيةٍ تمايز بين سكان منطقة عسقلان ولبنان والأردن خلال العصر الحديدي، ولكن نتيجة البحث أشارت إلى صعوبة ذلك، وبيّنت بأنه لا يمكن إيجاد فوارق، بل على العكس من ذلك، فقد أثبتت وجود تقارب جيني بين سكان هذه المنطقة.

هذا الاستنتاج فتح المجال أمام الدراسة لاستنتاج آخر ذي صلة، فقد أشارت الدراسة بأن سكان عسقلان في العصر الحديدي والذين وجدت الدراسة بأنهم متأثرون جينيًا بالأوروبيين، يعودون في سلالاتهم إلى جين أسلافهم القدماء القاطنين في منطقة بلاد الشام منذ العصر البرونزي.

دراسة لمجلة Science Advances: قد يكون أهالي عسقلان تحديدًا، متقاربين وراثيًا مع السكان القادمين من أوروبا، وهذا التقارب الجيني ذو الصلة الأوروبية حصل إما نهاية العصر البرونزي أو بداية العصر الحديدي

وتضيف الدراسة بأنه ومنذ العصر الحديدي، قد يكون أهالي عسقلان تحديدًا، متقاربين وراثيًا مع السكان القادمين من أوروبا، وهذا التقارب الجيني ذو الصلة الأوروبية حصل إما نهاية العصر البرونزي أو بداية العصر الحديدي. ثم تعود الدراسة للتأكيد بأن التقارب الأوروبي الحاصل، برز تحديدًا خلال بدايات العصر الحديدي، ولم يستمر إلى نهايات العصر ذاته، مما يشير بأن التأثير الوراثي الأوروبي على سكان هذه المنطقة، كان تأثيرًا محدودًا ولفترة زمنية محددة.

اقرأ/ي أيضًا: علماء آثار يتساءلون عن حقيقة علمانية إسرائيل

أوصت الدراسة، بضرورة أخذ عيناتٍ جينيةٍ أخرى وذلك لفحص الاختفاء السريع للتأثير الوراثي الأوروبي على هذه المنطقة، ورأت بأن التغاضي عن التدفق الجيني للعينة المختبرة بسبب نقص العينات، يؤدي إلى استنتاجات خاطئة، وهذا يستوجب الحصول على مجموعاتٍ جديدة من البيانات وتطوير مزيد من التقنيات المتقدمة، مثل تقنيات تخصيب الحمض النووي واستراتيجيات أخذ العينات المستهدفة.

كيف نناقش الدراسة؟

لا يمكن بأي حال من الأحوال رفض الدراسة، ومخطئ من يفعل ذلك، فجزءٌ هامٌ مما توصلت إليه يثبت حق الفلسطينيين في هذه الأرض، وإن بغير قصد، ولكن ببساطة يمكن مناقشة الدراسة ودحض نتائجها، وهنا أشير إلى نقطتين.

أولًا: إن منطقة البحر المتوسط تحديدًا إلى جانب كونها مهد الحضارات العالمية، والقريبة من أقدم مدينة في التاريخ، وهي مدينة فلسطينية تدعى أريحا ويبلغ عمرها أكثر من 11 ألف عام، أدت دورًا رئيسيًا في ربط الشعوب مع بعضها البعض. والتمايز الفريد الذي يحظى به البحر المتوسط سمح لحضاراتٍ وأناس عديدون بأن يلتقوا ويتعارفوا ويتزاوجوا، علاوة على ذلك فقد سهل هذا البحر من عملية ربط الشعوب التي تعيش حوله، ووفر العديد من طرق النقل الرئيسية بين الشرق والغرب.

جزءٌ هامٌ مما توصلت له دراسة مجلة Science Advances يُثبت حق الفلسطينيين في هذه الأرض، وإن بغير قصد

هذه المنطقة الفريدة التي تطل عليها فلسطين بساحلٍ يمتد طوله نحو 266 كلم، مرّ عليها أجناسٌ وشعوبٌ وقبائل ورحالة، وهذا كله لا ينفي وجود سكان على هذه الأرض، ولا ينفي وجود الفلستيين في عسقلان تحديدًا وبلاد الشام عمومًا. هذا بالضبط ما أثبتته الدراسة، وإن بغير قصد، حينما أثبتت وجود سكان في منطقة عسقلان خلال فترة العصر البرونزي، مرتبطون مع جيرانهم من سكان لبنان والأردن بينهم بجين وراثي متشابه، وأن هذا الجين تغيّر وبشكل محدود في العصر الحديدي بسبب دخول الأوروبيين إلى المنطقة، وأن الفلسطينيين الموجودين الآن على أرض فلسطين هم من سلسلة أسلافهم الفلستيين أولئك الذين سكنوا على هذه الأرض قبل مجيء الأوروبيين.

اقرأ/ي أيضًا: علم الجينات يوجه الضربة القاضية لإسرائيل

ثانيًا: بعدما كشف الفريق البحثي بأن أقل من 10% من العينة هي فقط من نجحوا بفحصها، وأن هذه العينة لم تقدم لهم النتائج المتوقعة، أشاروا في مناقشتهم للدراسة بأن العينة التي فحصت غير كافية، وأن هذا يستوجب المزيد من البحث عن عينات إضافية. وعلاوةً على ذلك أشاروا إلى ضرورة مقارنة ذلك مع عينات أخرى في قبرص وسردينيا وبحر إيجة، عدا عن منطقة جنوب بلاد الشام، قبل تعميم وجود تجمع جيني أوروبي في هذه المنطقة. هنا تحديدًا أشارت نتائج الدراسة إلى عكس ما توقع الفريق البحثي، إذ أن الجينات التي نجح الفريق البحثي في اختبارها وقفت عاجزة عن التفسير أمام مقبرة عسقلان، التي شكلت بالنسبة للباحثين الجزء الأكبر من العينة المبحوثة.

بيّنت الدراسة درجة عالية من الاستمرارية الوراثية في بلاد الشام أثناء أواخر العصر الجليدي المتأخر والعصر الحجري والنحاسي المبكر

هنا بيّنت الدراسة درجة عالية من الاستمرارية الوراثية في بلاد الشام أثناء أواخر العصر الجليدي المتأخر والعصر الحجري والنحاسي المبكر، وذلك قبل أن تعقبه اختلاطاتٌ سكانية متزايدة مع السكان المرتبطين بالأناضول وإيران على الأقل حتى العصر البرونزي الأوسط. وللاستفاضة عن مقبرة عسقلان، قدم الكاتب تيسير خلف مقالًا مطولًا في صحيفة العربي الجديد يحمل عنوان: "مقبرة عسقلان تنتصر للفلسطينيين وتكذّب نتنياهو و"الآثار" الإسرائيلية"، فند فيه الادعاءات التوراتية في ضوء نتائج تحليلات رفات مقبرة الفلسطينيين القدماء في مدينة عسقلان.

ماذا يريد نتنياهو؟

نشر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سلسلة تغريدات عن الدراسة، قال فيها "تؤكد دراسة جديدة للحمض النووي تم استعادتها من موقع فلسطيني قديم في مدينة عسقلان الإسرائيلية، ما نعرفه من الكتاب المقدس، أن أصل الفلسطينيين (القدماء) موجود في جنوب أوروبا". وألحق نتنياهو هذه التغريدة بأخرى يقول فيها: "لا توجد صلة بين الفلسطينيين القدامى والفلسطينيين الحاليين، الذين جاء أسلافهم من شبه الجزيرة العربية إلى أرض إسرائيل بعد آلاف السنين". وتابع نتنياهو: "إن ارتباط الفلسطينيين بأرض إسرائيل ليس شيئًا، مقارنة مع 4000 عام من الارتباط بين الشعب اليهودي والأرض".

اقرأ/ي أيضًا: إيلان بابيه يفضح "فكرة إسرائيل"

يظن البعض أن الرد على هذا النوع من الدراسات هو مسعى لإثبات حق الفلسطينيين في أرضهم أو إثبات وجود سكان على هذه الأرض قبل وصول الإسرائيليين الحاليين إلى هذه الأرض واستعمارها وطرد أهلها. بادئ ذي بدء فإن الخرافات التاريخية التي قام عليها الخطاب الإسرائيلي - الصهيوني على مدى السنوات الماضية، بعدم وجود شعب على هذه الأرض قبل وصول الحركة الصهيونية وأنه هذه الأرض قاحلة، وأن المستعمرين هم من قاموا ببنائها وزراعتها، لا تعني الفلسطينيين ولا المؤمنيين بعدالة القضية الفلسطينية بشيء، ولا أرى ضرورة بالرد عليها، فهنا تحاول الرواية الصهيونية جرّنا إلى نقاشاتٍ صهيونيةٍ داخلية لا دخل ولا صلة لنا بها.

لا ضير في إضافة هذه الدراسة إلى سلسلة الدراسات التي تقوم بها إسرائيل من أجل إثبات وجودها على هذه الأرض، وتعطي نتيجة معاكسة بإثبات حق الفلسطينيين في أرضهم

حقنا في هذه الأرض وتاريخنا وروايتنا وأصلنا ونسبنا وصلتنا بأقراننا من أمتنا العربية واضحة، فهذه أرضٌ عربية وسكانها مرتبطون وراثيًا وجينيًا ببعضهم البعض، وهذا ما يشهده التاريخ، وما كُتِبَ عن الفلسطينيين ولا زال يُكتب سواء من الفلسطينيين أنفسهم أو المؤمنيين بقضيتهم. وهنا لا ضير في إضافة هذه الدراسة إلى سلسلة الدراسات التي تقوم بها إسرائيل من أجل إثبات وجودها على هذه الأرض، وتعطي نتيجة معاكسة بإثبات حق الفلسطينيين في أرضهم، وهذا ما حصل فعليًا مع الدراسة المنشورة في مجلة "ساينس أدفانس".

لذلك، فإن الرد على نتنياهو إن كان الفلسطينييون قادمين من أوروبا، وإن كانت فلسطين أرضًا فارغة وقاحلة وشبه صحراوية وأن الصهاينة هم من قاموا ببنائها وزراعتها، نقاش لا يعني كاتب هذا المقال، فنحن أمام خرافة من عديد الخرافات الصهيونية، التي وجدت أرضًا خصبة للانتشار في مجالات السياسة والإعلام والمناهج الدراسية في إسرائيل.

علاوة على ذلك، فإن الفلسطينيين والمؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية مقاومتهم واضحة، فهم يناضلون ضد عنصرية واستيطان الحركة الصهيونية ومن بعدها إسرائيل لأرض فلسطين، والتي تسببت بمقتل وتشريد وطرد وتهجير الفلسطينيين وسلب إدراتهم وحقهم في العيش على أرضهم. وأجندتنا البحثية واضحة، فلنا سرديتنا وروايتنا التي نكتبها وتعبر عن حقنا وتاريخنا، دون الانجرار وراء الرواية الصهيونية ومحاولة الرد عليها أو الرد على عنصرية نتنياهو. أما إن كان نتنياهوالذي تعود أصوله إلى بولندا من جهة الأب والولايات المتحدة من ناحية الأم، يشعر بقلق كوّن الدراسة المشار لها في مقالنا لم تثبت نسبه باليهود القدامى الذين عاشوا في أرض فلسطين وطُرِدَ بعضهم على أيدي الرومان، فهذه مشكلته وليست مشكلتنا.

الفلسطينييون في أرض فلسطين معركتهم واضحة، فهم مستمرون بالتصدي لممارسات الحركة الصهيونية وإسرائيل من بعدها حتى لو استمر نتنياهو أو غيره بنفي حقنا في أرضنا، ومستمرون بكتابة تاريخنا وتوثيق ذاكرتنا.


اقرأ/ي أيضًا: 

يهود الشرق: أسئلة وفصام الهوية

شلومو ساند وديناصور الشعب اليهودي

السامريون: لا ذكر للقدس في التوراة وجرزيم قبلتنا