اتفق أبٌ قبل نحو 150 عامًا، على إعطاء طفلته التي لم يتجاوز عمرها آنذاك عامًا ونصف، لطفل كان في يوم ميلاده الثالث، حدث ذلك على "بيدر" القرية، وقت الظهيرة، ووُثق الاتفاق بالشهود. ذلك كان يُسمىّ "العِطية"، وهو اللفظ المرادف لخطبة البنت أو الفتاة حاليًا.
تزخر سجّلات محكمة نابلس الشرعية من العهد العثماني بدعاوى كثيرة كان سببها الرئيس "العِطية"
من أمثلة هذه الدعاوى أنّ فتاةً قاصر، أعطيت في العام 1860 إلى واحد من أخوين، بالاتفاق بين والدي الطرفين، مع ترك تحديد العريس إلى حين عقد النكاح، وهو أمر ليس مستهجن آنذاك، وكان أكثر انتشارًا في قرى نابلس عنه في المدينة.
كان مفهوم "العِطية" سائدًا بقوة، آنذاك، وقد درج هذا اللفظ أكثر من لفظ الخطبة، ووُثّق بمصطلحات (أعطى، اني معطي بنتي، الاعطا، اعطاها، اعطاه اياها، العطية)، وهو مفهوم يشير إلى الثقافة المجتمعيّة التي كانت سائدة في حينه، بضرورة "ستر البنت".
اقرأ/ي أيضًا: في شهر "أيار".. حصاد وغناء وفرسان
ولم تكن "العطية" مُرتبطة بمكان وزمان محددين على نحو ما يحصل في أيّامنا هذه. ويحدث أن تتم دون تخطيط وتفكير مسبق، ففي إحدى الحالات جرى إعطاء إحدى الفتيات من أبيها، بينما كان في سجنه. وغالبًا كان يتم دون أي اعتبار لرأي ورغبة الفتاة، وأحيانًا بدافع الحصول على المال نقدًا، كما يحمل في طيّاته تسريع التخلص من "عبئ البنت" من جانب أهلها لدى البعض، واكتساب أيد عاملة جديدة بالنسبة للزوج وعائلته.
اقترنت العِطية أحيانًا بتحديد المهر ودفعه لوالد الفتاة وقت العِطية أو جزء منه، وأحيانًا يُترك تحديده ودفعه لحين العقد
وكُلّ ذلك كان مُرتهن بالفترة الزمنية التي تكون فيها الفتاة صغيرة أو قاصرة. فكثير من حالات "العِطية" لم تنجح كما اتُفق عليها، وشابها مشاكل عديدة، خاصّة عندما يكتمل نمو جسم الفتاة، بحيث تصبح قادرة على الحمل. ففي أحد العقود جرى الاشتراط بأن تكون الفتاة "مطيقة للوطئ".
في العام 1871، "أُعطيت" بنت صغيرة إلى رجل على مهر قيمته (3500 قرش) دفعها لوالدها وقت العِطية، وما حصل أنّه تم عقد النكاح للفتاة على رجل آخر في العام 1882، أي بعد بلوغها، وعلى مهر مقداره (3500 قرش) ودخل بها، فذهب الأول للمحكمة يطالب بفسخ عقد النكاح، وفي حين عجز عن تقديم بيّنة على دعواه، فقد حكم القاضي بعد الاستماع لأقوال الفتاة بصحة عقد النكاح الثاني.
اقرأ/ي أيضًا: الختامة.. فرحة اندثرت في نابلس
وتشير السجّلات أيضًا إلى أنّه وفي العام 1888 رفضت "بنت" الزواج من شاب كان والدها "أعطاها إيّاه" وهي صغيرة، وأثبتت لقاضي المحكمة أن والدها "أعطاها" لابن خالها وهي قبلت به، فحكم القاضي بصحة "العِطية" الثانية وبطلان الأولى.
كان الأب يُعطي ابنته لرجل آخر على نيّة الزواج، بسبب حاجته الماسّة للمال، وأحيانًا لسداد دين عليه!
وفي حالات أخرى كانت الرجل يُعطي ابنته لرجل آخر، بسبب دين عليه، ففي عام 1890، "أُعطيت" بنت غير بالغة لرجل على مهر مقداره (2700 قرش)، وللرجل في ذمّة والد الفتاة مبلغ (400 قرش) ديون تم حسمها من مبلغ المهر، على أن يُدفع الباقي لوالد الفتاة حين العقد، وما حصل لاحقًا أنّ والد الفتاة توفي، فقام أحد أخوة الفتاة في عام 1894 بتزويجها من رجل آخر على مهر (3000 قرش)، وبقبولها التام، دفع الرجل ألفيّ قرش، وبقي في ذمته (1000 قرش). فذهب الأوّل للمحكمة يطالب بفسخ عقد الزواج، وبعد الاستماع لأقوال الأطراف تبيّن أن والدها كان أعطاها للرجل الثاني عندما كانا- الشاب والفتاة - صغارًا في العام 1870، وحدد مع والد الطفل آنذاك مبلغ المهر المذكور، وفي حين أحضر الرجل الأول شهودًا ثبت أنهم شهود زور، فقد أثبت الثاني دعواه ليحكم القاضي له بشرعية عقد الزواج.
اقرأ/ي أيضًا: عن تاريخ الصيدلة في فلسطين.. صور
ظلم صارخ، ذاك الذي كانت تتعرّض له النساء في كثير من الحالات فيما يتعلق بقرار تزويجها دون انتظارها لتكبُر وتصبح قادرة على تحديد قرارها ورغبتها. والأمثلة أعلاه أثبتت أن مثل هذه الحالات شكّلتها وساهمت فيها ظروف مادية واجتماعية آنية مرتبطة بوقت "العِطية" فقط.
البعض يرى أنّ "العطية" كانت تعكس مدى واقعيّة المجتمع ضمن ظروفه ونظام حياته وإنتاجه آنذاك، في تزويج البنت منذ بلوغها بهدف الاستفادة القصوى منها في فترة خصوبتها وشبابها في إكثار الولادات لهدفين؛ توفير أيدٍ عاملة جديدة للأسرة، وتعويض عدد الوفيات الحاصل في ظل انعدام العناية الصحية الحقيقية التي تمنع الأوبئة والأمراض التي كانت تفتك بعدد كبير من الأطفال.
اقرأ/ي أيضًا:
"المعلاق" وجبة الخليل السحرية كل صباح