23-نوفمبر-2018

"عفوا.. يتعذر علينا صرف علاجك انتظر حتى موعد التسليم القادم". كلماتٌ لا نقاش فيها أجابت بها الممرضة التي تعمل في إحدى العيادات الحكوميّة في قطاع غزة، عندما قصدها المريض محمد حلس (55 عامًا) لصرف "روشيتة" الدواء له كما المعتاد مقابل تذكرة.

 حُرم المريض من الحصول على دوائه من نوع "كونكور"، ولم يشفع ملفه الطبي المدرج ضمن قوائم أمراض القلب المزمنة للحصول على العلاج بالمجان. علَّل الطبيب المتابع لحالته في العيادة ذاتها ما حدث بالعجز الذي تعاني منه العيادات الصحية. فاضطر حلس -الذي يعتمد في دخله على شيك التنمية الاجتماعية الذي يتقاضاه مرة كل ثلاثة شهور- إلى الاستدانة من أحد أصدقائه لشراء دواءٍ بديلٍ عنه لحين قدوم موعد صرف دوائه في المرة القادمة.

أدوية تُصنّف بأنها ليست للبيع، مفقودة في وزارة الصحة بغزة، لكنها موجودة في صيدليات تجارية بشكل غير قانوني

في إحدى الصيدليات التجارية فوجئ حلس بأن الصيدلاني يعرض عليه نفس الدواء الذي أُبلِغَ بأنه غير متوفر، لكن مقابل المال، رغم أن الدواء ليس للبيع.

اقرأ/ي أيضًا: العيادات الخاصة بغزة: مرضى يتعلقون بقشة أدوية عشوائية

هذه القصة أثارت تساؤلات دفعتنا للبحث في هذه القضية، فإن كانت وزارة الصحة تعاني من عجزٍ في الأدوية، كيف وصلت تلك الدوية إلى الصيدليات؟ وكيف تُباع وهي بالأساس حصتهم بالمجان؟ والجواب هنا أن كثيرًا من المرضى يحصلون على أدويتهم من جهات مختلفة: عيادات حكومية، عيادات تابعة لوكالة الغوث "الأونروا"، مؤسسات خيرية مانحة، والأدوية تفيض عن حاجة هؤلاء فيبيعونها بشكلٍ غير قانوني.

الشاب "س. ص" كان يعاني من التهاباتٍ الأمعاء المزمنة، وعلى إثرها تُصرف له 45 حبة دواء من  نوع  "رافسال" بداية كل شهر، يحصل عليها من خلال عيادة حكومية تابعة لمنطقة سكنه وسط غزة. ورغم أن الشاب شفي من المرض إلا أنه مازال يتقاضى العلاج نفسه، فيعرضه للبيع بالتعاون مع صيدلية تجارية مقابل 100 شيكل.

المتحدث نفسه أكّد أن مالك الصيدلية يتواصل معه بداية كل شهر حتى يشتري منه الدواء، ليس هذا فحسب، بل إن شقيقه أيضًا يعاني من اضطراباتٍ نفسيةٍ، وتصرف له مؤسسةٌ خيريةٌ، مجموعة من الأدوية من نوع، فيبيعها بنفس الطريقة، ما يُشكل له مصدر دخل يصل إلى 500 شيكل شهريًا، وأحيانًا أكثر.

وكانت قد أعلنت الصحة سابقًا عن وجود عجزٍ لدى مرافقها الصحية وصل لـ50%. ويحتاج المرضى في قطاع غزة شهريًّا إلى 143 صنفًا من أدوية الرعاية الأولية، إضافة لـ180 صنف أدوية أساسية لأمراض مزمنة، و65 صنف أدويةٍ لأمراض السرطان، لكن لا تورد جميعها. 

الترا فلسطين سأل مجموعة من الصيادلة حول هذه القضية، بعضهم اعترف بتجارته بأصنافٍ متعددة من الأدوية، وآخرون رفضوا الإدلاء بأي معلومات "خوفًا على سمعتهم".

مرضى في غزة يحصلون على أدوية بالمجان ويبيعونها لصيدليات، وتتراوح أرباح الصيدليات بين 30% إلى 90%

في مقابلةٍ معه، أكد مالك صيدليةٍ تقع في محافظة غزة -رفض الكشف عن اسمه- أن الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي يعيشها قطاع غزة هي من دفعت الصيادلة والمرضى لشراء الأدوية وبيعها، "لأنها تحقق ربحًا لكلا الطرفين".

اقرأ/ي أيضًا: مستحضرات تجميل بغزة: ميدان تجارب

ويُبين الصيدلاني أنه "في بداية كل شهر أو منتصفه، يأتي إلينا عددٌ من الزبائن المرضى ويعرضون مجموعة من الأصناف الدوائية للبيع مقابل نصف الثمن، وأحيانًا يتم تبديلها بأنواع أخرى، فنقوم باختيار ما يحقق لنا ربحًا أكثر ونضمن بيعه لزبائن آخرين".

ووفق ما أفادنا به الصيدلاني، فهو يحقق ربحًا يصل إلى 30% أو 50% أو 90%، حسب صنف الدواء الذي يقدمه المريض، موضحًا أن أطباء يحصلون على عيناتٍ دوائيةٍ معينةٍ من خلال مندوبي الشركات الطبية بالمجان، ويعرضونها على الصيدليات للبيع مقابل ثمنٍ معين، فيشترونها منهم.

وخلال وجودنا في الصيدلية، لاحظنا أن الصيدلاني لا يضع العقاقير الطبية التي يحصل عليها بالطريقة المذكورة على رفوف صيدليته، بل يخفيها بعيدًا عن العيون خوفًا من التفتيش. كما أنه يُزيل -أحيانًا- عنها ملصق "ليس للبيع"، بينما يضع الأصناف التي يصرفها المرضى من المؤسسات الخيرية على الرفوف.

وتتنوع الأصناف الدوائية التي يحصل عليها الصيدلانيون بنفس الطريقة ما بين مسكنات ألم، أدوية لأمراض مزمنة، حليب أطفال، مضادات حيويّة. 

من هنا يتضح أن بعض الصيدليات التجارية لا تلتزم قانونيًّا بما جاء في قانون الصحة العامة رقم (20) لسنة 2004، الخاص بنظام مزاولة مهنة الصيدلة الصادر سنة 1998، في مادته 43، والذي نص على: "يحظر على المؤسسة الصيدلانية شراء الأدوية إلا من الجهة المرخص لها ببيعها كما يحظر عليه بيع الأدوية التي انتهت صلاحيتها أو العينات الطبية المجانية أو الأدوية التالفة أو المهربة أو المباعة لوزارة الصحة أو الخدمات الطبية العسكرية أو وكالة الغوث، أو تبرعات الأدوية الواردة إلى فلسطين".

توجهنا إلى نقابة الصيادلة للوقوف على دورها من هذه المخالفات، فلم يُنكر النقيب خليل أبو ليلى وجود مثل هذه المخالفات، لكنه نفى في الوقت ذاته أن تكون "ظاهرة متنامية"، بل وصفها بأنها "تجاوزات فردية يقوم بها عددٌ قليلٌ من أصحاب الصيدليات".

نقابة الصيادلة: المخالفات في بيع الأدوية ليست ظاهرة بل تجاوزات فردية.. وزارة الصحة: كوادرنا الرقابية لا تكفي

وأفاد أبو ليلى بأن صاحبة الاختصاص في هذا الموضوع هي وزارة الصحة، "لكن في حال جاءت شكوى ضد أحدهم تقوم النقابة بالتحري في الأمر واتخاذ الإجراءات المناسبة، أو تحويل قضيته للجهات المختصة".

انتقلنا بالقضية إلى وزارة الصحة، فأجابنا مدير عام الصيدلة بالوزارة منير البرش معترفًا بخطورة ما تقوم بهذه الصيدليات "دون مراعاة  لأي معايير أخلاقية على حساب المريض"، كما قال، لكنه برّر عدم السيطرة على ما يحدث بأن الكادر الرقابي لا يكفي مقارنة بعدد الصيدليات في قطاع غزة (670 صيدلية).

وبيّن البرش أن الكادر التفتيشي يقوم بدوره الرقابي مرة كل ثلاثة شهور، وخلال ذلك يتفحص الصيدليات بحثًا عن مخالفين، وقد تم بالفعل إغلاق ست صيدليات تجارية مخالفة مؤخرًا.

وأفاد بأن هناك عجزًا كبيرًا في الأدوية لدى وزارة الصحة في غزة، "ورغم أن حصة قطاع غزة من الموازنة العامة 40%، إلا أن ما يصلها من أدوية لا يتجاوز 15%".

لكن وبصرف النظر عن محدودية الرقابة وضعف الملاحقة، ما هي عقوبة الصيدلاني الذي يثبت تورطه في ارتكاب مثل هذه المخالفات؟ يُجيب المحامي في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في غزة أنس البرقوني بأن العقوبات هي التنبيه، أو الإنذار، أو الإحالة إلى المجلس التأديبي، أو الإحالة للمحكمة المختصة، ويتم ذلك بقرارٍ من الوزير أن من ينيبه بناءً على تقرير المفتش.


اقرأ/ي أيضًا:

عن تاريخ الصيدلة في فلسطين.. صور

غزة تواجه عجزًا في الأطباء البيطريين.. ما هي المشكلة؟

أعشاب سامة في "دكاكين الطب البديل" في غزة