في رواية كائن لا تُحتمل خفّته لكونديرا تكتشف "تيريزا" أنّ ما عدتّه نضالها الحقيقي والوحيد؛ حين كانت تلتقط صورًا لمظاهرات التشيكيين في الشوارع إبان دخول القوات الروسية براغ في ستينيات القرن الماضي، لم يكن سوى عمل مخابراتيّ بامتياز؛ حيث كانت تُهدِي "دون أن تدري" تلك الصور المنشورة في المجلات العالمية لأجهزة الأمن، وبعد أن سئِمت المجلات من نشر الصور وبدأت البحث عن مواضيع أكثر إثارة، لم تعد هذه النضالات تعني أحدًا سوى السلطات التي زجّت بأبطال هذه الملامح الصغيرة والمنسية في السجون.
في مخيّم فلسطيني بالأردن، تتعرّض طفلة لم تبلغ 16 عامًا، للاعتداء الجنسي والجسدي من زوج الأم! يعتقد الباحث في حُمى الحماس أنّه يساهم في حلّ المشكلة حين يتحدث عن الجريمة
يقفز هذا الحدث الروائي إلى الذهن في أحد المخيمات الفلسطينية في الأردن، هناك حيث يتحمّس أي باحث بصبيانيّة لأقلّ الأحداث إثارةً بالنسبة لسُكان ذاك المخيم: طفلة لم تبلغ 16 عامًا، تتعرض للاعتداء الجنسي والجسدي من زوج الأم! سيعتقد الباحث في حُمى الحماس أنّه يساهم في حلّ المشكلة حين يتحدث عن هذه الجريمة.
اقرأ/ي أيضًا: هل قلتِ أنا أيضًا؟
ربما سيساهم حديثه فعلًا في زجّ الجاني في إحدى السجون، لكنّه في آن ودون أن يدري كما لم تدري "تيريزا" سيوقظ سلطات أخرى، سلطات أبوية تتكاثر باستمرار في بيئة لا تتوقف عن إنتاج السلطة بكافة الأنواع، لذا لن يعود أمامه سوى الخوض فيما وراء الحدث والتعتيم على أبطال القصة ومكانها.
ندى
لفتت الطفلة ندى "اسم مستعار" نظر المُشرفة على شؤون الزهرات في إحدى الجمعيات الطوعية في واحد من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، لم يكن سلوكها مشابه لسلوك باقي الفتيات المنتميات لذات المخيم، المتشابهات إلى حدّ ما في الظروف الاجتماعية والمادية؛ أي الظروف التي تُنتج أنواعًا من المشاكل النفسية؛ قد تتشابه وقد تختلف وفق استجابة كل منهن لها؛ لكنّها بالمُجمل تبقى مفهومة لمشرفة أمضت عمرًا في هذا المجال، والفهم يعني بالضرورة القدرة على السيطرة.
لكنّ ندى بقيت خارج السيطرة تمامًا، ما اضطر المشرفة لتتبع حالتها على الأخص إلى أن وصلت إلى معرفة ظروفها الخاصة، فندى تعرّضت لاعتداءات جسدية من قِبل زوج أمها، انتهت هذه الاعتداءات باعتداء جنسيّ واضح.
اقرأ/ي أيضًا: نفين العواودة.. ضحية الجريمة وممحاتها!
الاعتداء الجنسي لم يكن وحده ما أدى بندى إلى الاضطراب النفسي، بل اضطرار الأم لترك زوجها نتيجة الاعتداء كان له الدور الحاسم في اضطرابها، فهذا الانفصال بين الزوج والزوجة كان المرحلة التالية للاضطهاد الذي تتعرض له ندى، فهي الآن مسؤولة عن تردي الوضع المادي والاجتماعي للعائلة، فالزواج بالنسبة لأم لا تعمل ولا تتقن أي مهارة ليس أمانًا ماديًا فقط، بل هو نزوح لسلطة واحدة "سلطة الزوج" هربًا من سلطات متعددة "سلطة الأب والأم والأخ الأكبر والأصغر والعائلة الممتدة" سلطات مُعاد إنتاجها من سلطات أخرى؛ لذا فإن الانفصال كان بمثابة عودة لهذه السلطات دفعة واحدة، وإعادة إنتاج لسلطة جديدة تمارسها الزوجة المُطلّقة على الابنة المُعتدى عليها.
علينا أن نساعدها في ممارسة إنسانيتها العادية لتفهم وحدها ودون تلقين موقعها من العالم، وعليها أن تحل تعقيداتها الصغيرة قبل أن نُغرقها في تعقيدات أكبر
أمام هذا الوضع الذي بات مفهومًا للمشرفة لم تكن السيطرة على سلوك ندى بالمسألة السهلة، فمازوخية ندى مع الذكور وساديّتها مع الإناث وإنكارها المُتعمد لما جرى، واختلاقها لأحداث أخرى من نسج الخيال؛ باتت سلوكيات مَرَضية تحاول المشرفة تشخيصها وعلاجها بالتعاون مع أخصائية نفسية، لكّن الحالة برمّتها تتطلب إعادة نظر في تفكيرنا النمطي الذي يجعل ندى وغيرها من فتيات المخيم مُعجمًّا ثوريًا لأحلامنا الثورية الكبرى.
الكليشيه الأول: ندى بطلة في حلم وطني
ما جعل ندى وغيرها من الفتيات والفتيان أعضاء في جمعية طوعية في مخيم فلسطيني هو اتفاق ضمني وغير محكي بين الأهل ومشرفي الجمعية، فندى كغيرها من الأعضاء استثمار وطنيّ بالنسبة لجمعية تحاول إبقاء القضية الفلسطينية حيّة في الذاكرة؛ فيحفظ الأطفال فيها أناشيد الثورة ويرددون أسماء الشهداء والمدن والقرى الفلسطينية المُغتصبة، أما الأهالي فعلاقتهم بالجمعية علاقة نفعية في معظم الأحوال، حيث يتلقون التبرعات التي تُساهم في تحّسين أوضاعهم المادية ويتخلصون من إزعاج الأبناء خلال ساعات تواجدهم في الجمعية.
اقرأ/ي أيضًا: مرشحات في الانتخابات المحلية.. أخت وزوجة بدون اسم!
ليس تحميل أطفال المخيم أثقالًا وطنية منذ الصغر بالمسألة اللا أخلاقية، فهم فلسطينيون على أي حال، وهم جزء مفصلي مهم من الصراع مع الاحتلال شِئِنا أم أبينا وشاؤوا أم أبوا، لكن طفلة تعرّضت للاعتداء الجنسي نتيجة وضع معقد ومتشابك - قد لا يخرج عن سياق القضية للمفارقة – لن تُمثّل لها القضية الفلسطينية كقضية حق تاريخي، سياسي، أخلاقي أو حتى إنساني أكثر من تفريغ لقلقها الوجودي ومشاكلها الآنية ولن تُشكّل لها الجمعية أكثر من مُتّنفّس تُعامل فيه بلطف وتهرب من خلاله من سلطة العائلة، وأي حلم وطني يُعوّل عليها ليس إلا أضعات أحلام روائية خارجة عن سياق الواقع، وهنا ستبدو مهمة الجمعية والعاملين بها مهمة مُعقدة وصعبة، فقبل أن نُطالَب ندى وغيرها بأن يكن بطلات في حلمنا الوطني الكبير، علينا أن نساعدها في ممارسة إنسانيتها العادية لتفهم وحدها ودون تلقين موقعها من العالم، وعليها أن تحل تعقيداتها الصغيرة قبل أن نُغرقها في تعقيدات أكبر.
الكليشيه المضاد: ندى بطلة في حلم نسوي
لن تجد أيُّ ناشطة نسوية بيئة تضطهد الإناث أكثر من بيئة ندى، فالأنثى هي الحلقة الأضعف في سلم السلطة الأبوية في مخيم ندى، ووسيلتها الوحيدة لممارسة سلطة ما؛ هي إنجاب أنثى أخرى، وعليه فإن الأنثى الصغيرة وغير المتزوجة هي الأضعف في الهرم السلطوي، وستجد الناشطة النسوية تحميل ندى أعباءً وطنية وتحويلها لبطلة في حلم وطني إجحافًا في حقها وتهميشًّا لمشاكلها الأساسية؛ المشاكل الجندرية والتي تعاني منها فقط لكونها أنثى في بيئة تضطهد الإناث، ولن تجد الناشطة وقتئِذٍ حرجًا من إعلاء صوتها للحديث عن المعاناة الحقيقية للأنثى في القرن الواحد والعشرين، ولن يجرؤ ذكوري على القول بأن النسوية مجرد رفاهية للنساء المُترفات، لكن المسألة هنا ليست بالحق والباطل، بل بالمجال الحيوي لممارسة هذا الحق.
اقرأ/ي أيضًا: المرأة الغزية والوجه الآخر لتحدي أزمة الكهرباء
فعلاقة أي فتاة كندى ببيئتها علاقة مركبة، لا تخلو من عاطفة، أي أن "جلاديها" ليسوا جلاديين بل أب وأم وإخوة تحبهم كما تسخط عليهم، تعاني كجزء من العائلة من مشاكلهم اليومية، وقد لا تقدر على تتبع السلطة وكيف أُعيد إنتاجها إلى أن وصلت إلى أسفل الهرم، لكنّها تستطيع أن ترى التعب المرتسم على أفراد العائلة نتيجة حالة شديدة التعقيد والتشابك، وأن تُعبّأ بنظريات نسوية مجرّدة يعني أن تخرج عن هذا السياق الكلي، وليس الخروج عن السياق هو المأزق فقط، بل محاولة تطبيق النظرية في ظلّ هذا التشابك السلطوي قد يؤدي بندى إلى مزيد من الاضطهاد.
المسألة إذن ليست نسوية فقط، وإن لعب فيها العامل الجندري دورًا حاسمًا، وليست مسألة وطنية فقط وإن لعب السياق الوطني فيها دورًا ما، بل سياق كلي يحتاج إلى إعادة تقييم؛ بعيدًا عن التجريد، فندى الأنثى هي نفسها ندى الفلسطينية وهي ندى الطفلة التي تعيش في ظروف تغتصب الطفولة تحت شعارات كبرى.
اقرأ/ي أيضًا:
صور | شوقية.. مرأة في وجه الاحتلال