23-ديسمبر-2016

تصوير عباس المومني/ أرشيفية

لا أعلم تحديدًا متى انتشرت موضة البنطال "السكيني" في فلسطين، ولكنّي أذكر أنّه بين ليلة وضحاها اختفت كل البناطيل ذات الأرجل الواسعة من السوق. كل شيء تم بسرعة! الفتيات -ولاحقًا الشباب-  استبدلوا جميع بناطيلهم القديمة بأخرى ذات أرجل ضيّقة. لا أعلم ماذا حلّ ببناطيلهم القديمة، فنحن في فلسطين لا نرمي شيئًا، وكل شيء ندوِّره ونعيد استخدامه، علب السمن تتحول إلى أصص للزراعة. علب الشوكلاتة الفارغة تصبح علبًا لأدوات الخياطة أو الإسعاف الأولي. أمّا ملابسنا القديمة فتقصقصها أمهاتنا وتحولها إلى قطع صغيرة من القماش نمسح بها الغبار وننظف الزجاج. ولكن "الجينز" لا يصلح لشيء فهو ثقيل جدًا، فماذا حلّ بالبناطيل القديمة؟

كانت المحال التجارية تعرض على واجهاتها "ملكانات" ممشوقات القوام أرجلهن طويلة جدًا ونحيلة جدًا. يرتدين بناطيل ضيّقة ابتداءً من عظمة الحوض نزولًا لعظمة الكاحل. كل "الملكانات" كنّ يرتدين ذات المقاس، والبنطال يتغيّر لونه فقط، يَغمَّق أو يَفتّح أو يتغيّر لون الخيط المحبوك به، لا شيء أكثر، لا شيء أقل.

أصحاب المحلات كانوا فخورين ببضاعتهم، وعند سؤالهم إذا كان لديهم تصاميم أخرى للبناطيل غير "السكيني"، كان يردون باستهجان: السكيني هو الموضة، كل البنات تحبه!

لا أدري أيهما أكثر بؤسًا؛ أن يرتدي الإنسان بنطالًا لا يناسبه من أجل إرضاء الآخرين؟ أم أن يرتدي ما يناسبه ويتحمّل نظرات الآخرين ونبذهم؟

وقتٌ طويلٌ مضى والبلاد تلبس "السكيني" فقط. ورغم أنه لا يناسب الجميع إلا أنّه لم تكن هناك خيارات أخرى لأنه هو "الموضة"، والكل يجب أن يكون على الموضة.ويجب تشمل: الذين يحبون أن يكونوا على الموضة، الذين يخافون ألا يكونوا على الموضة، والذين لا يجدون بديلًا فيضطرون أن يكونوا على الموضة. الموضوع أعقد مما يبدو عليه، فالبلاد التي تخاف الاختلاف بالملابس، تخاف الاختلاف بالأفكار، ولا تحب أن تسمع كلامًا جديدًا غير الذي يتحدث به كلّ الناس. فعلى الجميع أن يلبسوا ذات المشاعر وذات الأفكار وأن تصدر منهم ذات الكلمات، وهذه المرة ليس ليثبت الشخص للآخرين أنه على الموضة، بل ليثبت لهم أنّه وطني ويحب بلاده. فماذا لو تمكنّا من نسج ملابس للتعبير عن مشاعرنا الوطنية؟ بنطال للتعبير عن الحزن العام مثلًا؟ وسترة صوفية للتعبير عن الانتصار، وقميص مخطط يشبه شعورنا بالغصب. ولكن من سيصمم لنا هذه الملابس ويحدد ألوانها ونوع أقمشتها ويعلن لنا عن مواسم لبسها؟

اقرأ/ي أيضًا: 

موديلز فلسطين.. هواية أم احتراف؟

أذكر جيِّدًا أنّه وخلال دراستي الجامعية وتحديدًا في فترة الانتخابات التي تشهدها الجامعة سنويًا لانتخاب مجلس طلبتها، سألتني إحدى الطالبات عن انتمائي السياسي. أذكر تمامًا ملامح وجهها، وكيف فوجئت عندما أخبرتها أنني مستقلة ولا أنتمي إلى أيِّ حزب. عندها قالت جملة لن أنساها أبدًا، قالت: "ولكن أنت فتاة جامعية ويجب أن تحملي همّ قضيتك، وتكون لديك ثقافة سياسية أكثر من ذلك". لقد اعتبرت زميلتي أن عدم انتمائي لحزب يدلل على ضحالة ثقافتي السياسية، وعلى عدم اهتمامي بما يجري حولي.

أخبرتني وقتها أيضًا أنّ الفلسطيني حتى يكون وطنيًا بما يكفي، عليه أن ينتمي إلى فصيلٍ ما، وكلُّ الفصائل "فيها البركة" كما قالت رغم الخلافات فيما بينها. كان كلامها يشبه البائع الذي يقنعك بالتخلي عن فكرة البحث عن موديلات أخرى غير "السكيني" لأنّه هو "الموضة" والكلُ يرتديه، وحتى لو بحثت عن غيره فإنك ستدوخ دون أن تجد شيئا. ولو فكرت بتصميم بنطالك بنفسك أو اشتريته من الخارج فإنّك لن تكون على الموضة، وسيسخر منك الجميع، بل وربما يشكّون في أمرك. فلماذا لا تشتري ما هو موجود، وتوفِّر على نفسك عناء النبذ المجتمعيّ؟

لتوضيح الفكرة أكثر، يُقال أنّ بإمكانك أن تعرف الكثير عن ثقافة الدولة من البضائع المستهلكة فيها. فأنواع الطعام والملابس الأكثر استهلاكًا تخبرك عن نمط الحياة اليومي في هذه الدولة. وبينما يصعب عليك إيجاد بنطال بقصة (straight) أو(boot) cut)  أو(curvy) في فلسطين، فإنك ستقف مذهولاً أمام التصاميم المتنوعة والمختلفة التي قد تجدها في كل محال الملابس في أمريكا مثلًا، فالناس هناك لا يلبسون مثل بعضهم، كلٌّ منهم يلبس ما يعجبه ويناسب جسمه. ولكن ماذا سنفعل عندما يتوجب علينا أن نلبس أفكارًا ومشاعر متشابهة لنثبت أننا فلسطينيون حقًّا وبما يكفي؟

يحاولون إخبارك ماذا عليك أن تفعل، وما لا تفعل، كي تكون فعّالًا في معركة التحرير، وجديرًا بحمل جنسيتك والانتماء لهذه البلاد!

إنّه صيف عام 2014، هناك حربٌ على غزة، بعد انتهاء الهجمة الإسرائيلية على القطاع امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بأخبار الانتصار وصوره. ونشطت عمليات البيع والشراء في محال الملابس التي طبعت عبارات وطنية على "تيشرتات" بألوان البلاد. غازلت الجمل المطبوعة أهل غزة وحيَّت شجاعتهم وباركت لغزة نصرها. ولأن الناس تخاف أن تكون نعيق الغراب الذي يشوِّش على هذه العصافير نشيدها، التزم البعض الصمت وخاف حتى أن يستفسر: كيف انتصارنا؟ وما هو مفهومنا عن النصر؟ حتى نتمكّن لاحقًا من التمييز بين الهزيمة والنصر. ولكن الفلسطينيون إذا ما فرحوا لا يسمحون لأحد بأن يسألهم مستوضحًا: لماذا أنتم فرحون؟ والمشكلة الأعظم أنّ مجرد الاستفسار يتحوّل معه المستفسِر إلى خائن وجبان، وقاموس طويل من الكلمات القاسية التي نبرع في توجيهها لبعضنا. عليك فقط أن تقول ما يقولونه لتكون الأمور على ما يرام.

في البلاد المحتلة يحاول الجميع إخبارك ماذا عليك أن تفعل، وماذا عليك أن لا تفعل كي تكون عضوًا فعّالًا في معركة التحرير، وحتى تكون جديرًا بحمل جنسيتك والانتماء لهذه البلاد. ورغم أن الجميع يشتكون من ذات الضغط المجتمعيّ، إلا أن الجميع يمارسه على غيره متى ما سنحت له الفرصة.

اقرأ/ي أيضًا: لا شفافية في تجديد السلطة عقود "بالتل"

إذًا فخُطتنا لتحرير البلاد هي أن نتشابه حتى ننتصر. ويبدو مفهوم الوحدة لدينا هو أن نخلق نسخًا متشابهة من أنفسنا. أن نلتزم بـ "الموضة الوطنية" التي يقررها لنا من هم أعلى منّا ومن يفهمون بشؤون الموضة والبلاد. ومهما بدت البضاعة غير مناسبة لك، ومهما بدت الفكرة ضيّقة على عقلك، عليك أن تشتريها ومعها بعض المشاعر والهتافات. فالمحلات محدودة والبضائع أيضًا محدودة، وعليك أن تختار بينها حتى لا يُنظر إليك نظرةُ ريب تحملها في قلبك طول عمرك دون أن تعرف لماذا حصلت عليها؟

أتفهم الخوف من الاختلاف بوصفه ثغرة تضعفنا وتهزُّنا. ولكن، هل هذا يجعلنا في حال أفضل؟ ولكن هل سننجو حقًا هكذا؟

عرضت قناة "ناشونال جيوغرافي" فيديو حول الامتثال الاجتماعي، وكان الفيديو عبارة عن مقلب نفّذته الكاميرا الخفية بفتاة جاءت لتفحص نظرها، وبينما هي في غرفة الانتظار يصدر صوت صفارة بانتظام زمني معين، وكلما صدر الصوت يقف المراجعون -الممثلون- جميعًا، الفتاة بدأت بالوقوف مثل البقيّة ودون أن تستفسر لماذا عليها الوقوف عند سماع الصفارة؟ وحتى عندما ظلّت بمفردها في غرفة الانتظار فإنّها استمرت بتطبيق قانون الجماعة الذي لا تفهمه، على نفسها. بل إنها بدأت بنقل السلوك الذي لا تفهمه، لأشخاص جدد، ومع نهاية التقرير قالت الفتاة إنّها خافت إن لم تقلِّد الآخرين في الغرفة أن تُصبح مستبعدة، وأنها شعرت بارتياح أكثر عندما انضمت إليهم وقلّدتهم.

ولكي أكون صادقة مع نفسي ومعكم، فأنا أتفهم الرغبة العامة بالتشابه والاتفاق. وأفهم الخوف من الاختلاف بوصفه ثغرة تضعفنا وتهزُّنا بينما نحن لا نحتاج إلى هذا، فلدينا من المشاكل ما يكفي. ولكن هل سننجو حقًا هكذا؟ لا أدري أيهما أكثر بؤسًا؛ أن يرتدي الإنسان بنطالًا لا يناسبه من أجل إرضاء الآخرين؟ أم أن يرتدي ما يناسبه ويتحمّل نظرات الآخرين ونبذهم؟

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الشتاء في لهجتنا العاميّة

شركات "خاصة" لاستغلال الفتيات في الضفة

"ببغاء" فيلم يحكي الوجع الفلسطيني