22-مايو-2018

صورة توضيحية من أرشيف (gettyimages)

خفقَ قلبها بشدة حينَما سمعتْ أحدهم يتمتم بقدوم عريسٍ لها، فابنة الـ12 عامًا أضعف من أنْ تُظهِر حُبًا أو تُعطي قرارًا، لكن الرد جاء بالإجماع على الرفض نيابة عنَها، قال المختار: "أنتَ شابٌ مميز، لكنها صغيرة على تحمل أعباء الحياة".

لم تكن تلك لحظة عاديّة في حياة حاكمة عطا الله من قرية السوافير الغربية المهجرة، وهي التي لا قُدرة لها على منع انشغال القلب به، ترى نفسها عروسًا لا تليقُ إلا بالجلوس إلى جانبه، إذ مضت سنوات من عمرها والحب يكبر في داخلها تجاهه، حتى أعلن القدر إطلاق سراح الحُبّ بينهما، بعدَ عودته من جديد لطلبِ يدها، وموافقة أهلها على الارتباط.

ما هي طقوس العاشقين "أيام البلاد"؟ قصص يرويها من عاشوا هذه التجارب لـ الترا فلسطين

قبلتِ؟ "آه والله زي القمر، عليه عيون غزال، كلُ البنات كانوا يحسدوني عليه"، تستدرك نفسها وتستدعي سرّ إصراره للارتباط بها، "بنتِ المُختار، حلا وجمال زي القمر، شعري طويل وأشقر لمن يطير مع الريح يغازلني على طول بصوته الحلو":

يا زريف الطول يا سن الضحوك ... يلي رابي في دلال امك وابوك

يا زريف الطول يوم الـ غربوك  ... شعر راسي شاب والظهر انحنا

آمنتْ حاكمة بانحياز الحظّ الجميل لها، وهي تقارن قصتها بما حدث مع قريبها الذي أحبّ فتاة تملأ جرار المياه بجوارهم، لكنها لم تُكن من نصيبه، إذ لم تكن قد حجزتْ مساحةً من الرضا في قلب والدته التي أوهمته بأنها ذاهبة لتخطبها له، ثم دخلت بيتًا غير الذي أراد، وخطبت له أخرى! لم يستطع رفضَ قرار أمه، فماتَ وقلبه معلق بحبها، كما تقول حاكمة: "ضَلْ نِفْسه فيها لآخر يوم بحياته".

أين كُنتما تخرجان؟ ضحكت مغموسة بحياءٍ لم يُذهب بريقه بلوغها 107 أعوام، ثم همست لي، "كان يوخدني على كروم العنب والتين"، ثم أمالت برأسها إلى رأسي، "كان يمسك إيدي، يحكي لي كلام الحبّ وننبسط كتير"، فتعلو ضحكة ابنتها السبعينية "والله ما انتِ قليلة يمّا".

تتباهى حاكمة بــ"حطة معطرة" صنعتها له، وكيف بادلها بحلوى خبأها في ملابسه، ووضع على كتفيها شالا مطرزًا صنعته إحداهنُ بحبٍ وعلى مهلٍ حسب طلبهِ منها، ويدس في يديها منديلاً حريريًا "كي تعلق في حبهِ أينما ذهبت".

كان الحب يدفع حاكمة لأن تنقصِ من طعام عائلتها "زغلولة" أو "حمامة" وتخص بها حبيبها، كي يتسنى لهما اللقاء ولو من بعيد.

وفي إحدى بيّارات قرية هربيا المهجرة، كانَ محمود أبو شقفة يتلقّف الوقتْ بجِدٍ وشوقٍ كبيرين، لأنّ عينيه ستلتقيان بحبيبته. يقفُ على ناصية الطريق منتظرًا أن يُخبرها قلبها بوجوده، فتُطل من بيتها، لتمنحه النظرة وتمضي في طريقها.

حبٌ عميق لم يتخلله حديثٌ بينهما، إنمّا كانَ يُكتَب بالنظرات، وقبل اكتمال دائرة عشقهما ضاعت "البلاد"، واستقر الحال به في غزة وحبيبته في مدينة خانيونس، وسُرعان ما عرض عليه الأهل فتيات "ملكات جمال" كما يصفهن، "غير أن الحب لا يكون إلا للحبيبِ الأول".

بعد فشل محاولات خطبتها من قبل أهله، قرر أن يتحدث مع والدها حتى يُقنعه، في حين وقفت هي على باب الخيمة ترتجي أنْ لا يُردَّ حبيبها خائبًا.

"المهر 90 ليرة، وفرج الله - قطعة ذهب توضع على الرقبة - شاور مخاتيركم وردّلنا". لم يُفكر أبو شقفة كثيرًا في ما قاله والدها، باستثناء أنَ القدر قد كتبها له، "سعادة لم يذق لطعمها مثيلاً حتى يومه هذا" كما عبّر لنا.

 لمْ يلتق أبو شقفة حبيبته أثناء خطوبتهما التي امتدت عدة شهور سوى مرتين صدفةً وهي تسير في بيتها، ودون أي حديثٍ يدور بينهما إلى أن تزوجا، إلاّ أنّه كان يُرسل لها "العيدية" وأثوابًا مطرزة مع أهله.

ما الذي كانتْ تعنيه لكْ؟ يُجيب الرجل الذي بلغ (87 عامًا) الآن، "حبيبتي والله، بموتْ فيها، والله قلبي نار على فراقها، ريتني متت معها أو قبلها، ولا أذوق حسرة بعدها عني، نفسي أشوفها، كُل يوم بطلّع بصورتها وبدعي الله يجمعني فيها".

في عروس البحر" يافا"، كانت ابتهاج دولة تختال بجمالها، ترتدي فستانها المدرسي وتسير من بيتها للمدرسة وبالعكس، فيتسلل الإعجاب في قلبِ أحدهم، ويبحثُ عن بيتها كي يُمهدَ طريقًا أبديًا لها في حياته، يُطرق الباب مرارًا، ويُعلّق الأمر للنصيب.

استقرّ الحال بابتهاج مع شابٍ رآها عند أحدِ أقاربه وأُعجب بها، تؤمن كسابقتها أنّ الأمهات عجزنَ أن يلدن كحبيبها الذي كان يصبُ الدلال عليها، وأنها لم تتوانَ لحظةٍ عن خدمته حتى فارق الحياة، مؤكدةً مقولة "اللي بيوخد يافاوية بيسعد".

في يافا، كانت دار السينما وشاطئ يافا ملتقى دولة وحبيبها، شرط أن يُصاحبهما أحد أفراد العائلتين، وقد كان ذلك يقيد مشاعرهما قليلاً، "إلاّ أن الحبّ كان أصيلاً، والعلاقاتْ أمتن من أن تنتهي عند أول خلافٍ، وليس كما يحدث اليوم؛ بركبوا جناحات وكل واحد بطير لحاله" كما تقول ابتهاج.

كانت أغاني أم كلثوم وعبد الوهّاب هي الأقرب لقلبها، إلاّ أن أغانٍ أخرى امتلكت مكانة خاصة في قلبها عندما كان يغنيها لها، ومنها:

يا اللي تمشّطي بمشط الحية     مهما رحتي مرجوعك ليا

لا بدي إمي ولا بدي بيّ         بدي حبيبي أسمرِ اللون

يا اللي تمشطي بمشط الحية   لا تمشطي لمشطك يخرب

من شوقي ليكِ أنـــــــا              لا باكـــــل ولا بشرب

يُبين رئيس مركز التأريخ والتوثيق الفلسطيني خالد الخالدي لـ الترا فلسطين أن أغلب قصص الحب كانت تبدأ عندما تذهب الفتيات ليملأن جرار المياه من الينابيع، أو أثناء "الحصيدة"، أو خلال تنقلهن من مكان لآخر. ويضيف، "أحيانًا، كانت الفتاة تخضع لاختبار الشاب؛ فيحاول الحديث معها، وإن لم توبخه فهي ليست صالحة لأن تكون زوجةً له" كما يعتقدون.

ورغم ذلك، فإن العادات الدارجة آنذاك أفسدت قصص حب كثيرة، وفق الخالدي، إذ لم يكن بإمكان الإناث، وفي مرات كثيرة الذكورأيضًا، الاختيار بين القبول والرفض، فالأب هو صاحب القرار، وإنْ قال أحدهم "شاورتُ البنت" يُجيب المُختار"هيَّ البنت بتتشاور؟"، وكثيرًا ما تم الاتفاق على كل التفاصيل باستثناء يوم الزفاف دون إعلام الخاطبين بذلك.

يقول الخالدي إن هذه العادة أنتجت شعورًا بالسخط لدى كثيرين، نتيجة إجبارهم على شريك لا يرغبون به، وقد وصل الأمر في حالات كثيرة إلى الطلاق. وأضاف، "كثيرًا ما نسمع كبار السن يتحدثون عن نساء لازالوا يتمنون أن لو عاد بهم الزمن للارتباط بهن".

ويشير الخالدي إلى أن رفض العائلات في بعض الأحيان، يأتي لاعتبارات قديمة منها عدم حُب المخاتير لبعضهم البعض، أو تفضيل ابن العم على الشخص الغريب، وأحيانًا عدم تكافؤ المستوى العائلي بين القرى والمدن.

تباينتْ عادات الحب والخطوبة بين القرى والمدن، فقد شهدتْ بعض المدن كغزة ويافا انفتاحًا أكبر من القرى، فكان بالإمكان تزاور الحبيبان بعد الخطوبة أو الخروج معًا - في حدود معينة - وتقديم الهدايا، لكن ذلك كان يُعتبر عيبًا في بعض القرى، يُعاير به من يفعله لسنوات طويلة.