19-يونيو-2018

عاد "صامد" بعد أن بلغ الرابعة والعشرين عامًا، إلى لعبة طفولته المفضّلة التي طالما قضى فيها معظم وقته مع شقيقه وابن عمّه على سطح منزله، يصنع معهم الطائرات الورقية بأبهى الألوان، وتتشابك خيوطها في السماء وهم يتسابقون فيما بينهم على من ترتفع طائرته أكثر، ومع غروب شمس يومهم يسحبونها إليهم ويغادرون السطح ليعودوا في عصر اليوم التالي إلى سباق جديد.

"صامد" وهم اسم مستعار لشاب فلسطيني، عاد برفقة أصدقائه لصنع الطائرات الورقية، ولكن في هذا الربيع من العمر "صامد" ليس لاعبًا أو متسابقًا، بل مقاومًا ومقارعًا بها جنودًا لطالما احتلوا أرضه، يخترق بطائرته حدودًا وضعها هذا المحتل، ليحرق بها مستوطنات أقيمت على جزء من وطنه سُلب قبل 70 سنة.

عاد "صامد" برفقة أصدقائه لصنع الطائرات الورقية، ولكن مقاومًا ومقارعًا بها جنودًا لطالما احتلوا أرضه

والطائرات الورقية سلاح جديد يستخدمه الفلسطينيون المشاركون في مسيرات العودة التي انطلقت في قطاع غزة مع نهاية آذار/مارس الماضي، وما تزال مستمرة. ويتم إرسال هذه الطائرات بخيوط سميكة موصولة بشعلة حارقة إلى الجانب الآخر من الأراضي المحتلة.

اقرأ/ي أيضًا: صور | "طائرات المولوتوف".. السلاح الأقوى لمسيرات العودة

"زمان كنت أشتري الورق الشفاف من مصروفي ليكون طبقي الأحلى بين كل أولاد الحارة، لكن اليوم طائرتي حجمها أكبر وأزينها بصور الشهداء، والأهم أني أركز ميزانها بالسنتيمتر وأذيلها بالمونتوف"، يقول "صامد" أحد أبرز الشبان صانعي الطائرات الورقية في قطاع غزة، والتي تسببت بخسائر مليونية في مستوطنات"غلاف غزة".

ضحك صديقه "أحمد" وهو اسم مستعار أيضًا، ونظر بحب إلى "صامد" مستحضرًا بعضًا من ذكرياتهما قائلًا: "فاكر لما شبكت طبقك بطبقي ونزلته أرض أرض على راسه".

تعالت ضحكات الأصدقاء جميعًا وهم يصنعون تلك الطائرات بحب ورغبة شديدة في الاستمرار بهذا العمل، "حتى لو لم يكن هناك مسيرات عودة"، وبعد قليل صاح صامد: "بيكفي انتبهوا لشغلكم، وأنت يا أحمد ركز في الميزان أحسن ما ينزل الطبق راس قبل ما يوصل".

قسّموا أنفسهم إلى مجموعات لكي يسرعوا في تجهيز أكبر عدد من الطائرات، بعضهم يصنع رأس الطائرة وآخرون يُعدون الذيول، وآخرون يجهزون الشعلة والصور، لكنهم لن يعيدوها في المساء لسباق يوم جديد، فشغل عقولهم الشابة الشاغل هو كيف يسقطونها في مزارع الاحتلال على أرضهم.

إضافات بسيطة ومهارة التحكم

كيس سكر، فحم، مادة سيليكون وبنزين وأسلاك. مواد جديدة يضيفها الشبان للطائرات الجديدة لكي تشتعل في مساحات شاسعة في المستوطنات المحاذية بعد إسقاطها فيها.

كيس سكر، فحم، مادة سيليكون وبنزين وأسلاك. مواد جديدة يضيفها الشبان للطائرات الورقية لكي تشتعل

يضيف صامد متحدثًا  لـ"الترا فلسطين" داخل إحدى خيام العودة المنصوبة على الحدود الشرقية لمخيم البريج وسط القطاع، "أيضًا عرض الطائرات الورقية التي نصنعها كبير، بعضها متر وبعضها متر ونصف".

اقرأ/ي أيضًا: مسيرات العودة: مشاهد لا تُنسى.. صور وفيديو

وتعتبر "الشعلة" كما يسميها صانعو هذه الطائرات، الابتكار الجديد الذي أثار غضب "إسرائيل" بعد حجم الحرائق الكبير الذي ما زالت تسببه هذه "الألعاب" في مزارع المستوطنات وحقولها، وهو ما كبّد المزارعين والمقيمين في المستوطنات خسائر فادحة.

يقول "صامد": "زمان كانوا يصنعون الشعلة ولكن يضعونها في زجاجة ويرشقون بها جيبات اليهود لما كانوا داخل غزة، لكن اليوم نثبتها في ذيل الطائرة بسلك حديد دون أن نضعها في زجاجة".

يحملون عددًا من الطائرات بعد صنعها ويطلقونها مع ساعات عصر كل يوم، وهم يغنون لها ويحدثونها كأنها تستجب لتعليماتهم، يغنون "طيري يا طيارة طيري، طيري روحي عليهم روحي".

أثناء إطلاق إحداها، قال "صامد" عن التحكم بالطائرة وضمان وصولها إلى داخل المستوطنات: "أنا أتحكم بها بمهارتي، والأهم أن لفة الخيط الموصولة بها كبيرة جدًا ويمكنها إيصالها لأبعد مدى، لكن التركيز مطلوب خاصة في عملية السحب والإرخاء تارة لتصل إلى ارتفاع شاهق ومساحة أبعد".

على بعد حوالي 10 كم وبعد وصولها نقاطًا يُقدرها صاحب الطائرة، يقطع الخيط لتسقط على مزروعات المستوطنين.

"قتلوا أصحابنا ولا نخاف تهديدهم"

هؤلاء الشبان أصبحوا حذرين جدًا، تراهم ينظرون حولهم، يتعاملون مع أي شخص غريب بيقظة، فجيش الاحتلال بدأ يتعامل مع مُطلقي هذه الطائرات كما يتعامل مع صواريخ المقاومة، وقد كان من الدلائل على ذلك قصف سيارة قال الاحتلال إن صاحبها أهم مُطلقي الطائرات من القطاع.

يعلق على ذلك الشاب "أ.ش" ومهمته بين الشبان إطلاق الطائرات الورقية لمهارته العالية في التحكم بها: "قتلوا من أصحابنا الكثيرين وبعضهم في المستشفيات، لو أننا نخاف من التهديد لتوقفنا عن هذا، لكن الله معنا وسنفاجئهم عما قريب".

وفي وقت سابق قررت حكومة الاحتلال خصم قيمة الخسائر التي تُسببها هذه الطائرات من عائدات الضرائب التي تجبيها إسرائيل لـ السلطة الفلسطينية. يعلق "أ.ش" دون اكتراث "يخصموا أو ما يخصموا، الرزق على الله".

مسؤول إطلاق الطائرات في البريج يكشف لـ الترا فلسطين عن الإعداد لطائرات ورقية أكبر حجمًا وأكثر اشتعالاً

حاول مستوطنون تقليد هؤلاء الشبان ومحاربتهم بسلاحهم، فصنعوا الطائرات وأطلقوها تجاه غزة، وإذ بها تعود إليهم، هذا الفشل استحضر سخرية أصحاب هذه اللعبة الفلسطينية بامتياز.

علّل أحدهم لـ"الترا فلسطين" فشل تجربة المستوطنين قائلًا: "من شدة غبائهم حاولوا حرق أراضينا بإطلاق الطائرات عكس تجاه الريح، فالريح شرقي، ولا يمكن للطائرات أن تصل من الطرف الآخر إلينا، لأنها عكس اتجاه الرياح".

وكشف مسؤول إطلاق الطائرات لـ"الترا فلسطين" عن الإعداد لطائرات ورقية أكبر حجمًا وأكثر اشتعالًا، إذ سيصل حجم رأس الطائرة الواحدة إلى مترين، وسيُضاف إليها مواد أخرى تضمن اشتعالًا أكبر، لكنّه فضّل عدم الكشف عن المواد كي لا تمنع سلطات الاحتلال إدخالها للقطاع، خاصة وأن أصنافًا كثيرة يُمنع دخولها منذ سنوات بحجة استخدامها في أعمال محظورة بالنسبة لـ"إسرائيل".

ردد الشبان بعزم وبصوت عال: "سنفاجئهم أبناء اليهودية".

الجدير بالذكر أن الاحتلال يستعين بطائرات للسيطرة على الحرائق المستمرة التي تسببها الطائرات الورقية، وتحاول "إسرائيل" البحث تقنيات للسيطرة على هذه الطائرات قبل وصولها إلى عمق المستوطنات.


اقرأ/ي أيضًا:

السلطة والفصائل سقطت في معركة الدبلوماسية الرقمية

صور | أدوات الإرهاب الإسرائيلي تحف فنية في غزة

"سبيدي إكسبريس" ومسيرات العودة.. ما العلاقة؟