21-نوفمبر-2017

"الله يمسيكم بالخير، مسية تطرد مسية، أول مسية للضيوف، ثاني مسية للمحلية". بهذه الكلمات أو ما يشبهها تُبدَأ الدحية، حيث يصطف الكبار والشبان والصغار في حلقة واسعة، بعضهم يحمل سيوفًا، يهزون رؤوسهم وأيديهم، ويضربون الأرض بأقدامهم، ويرد كل صف منهم على الآخر، إذ تتضمن كلماتها الصلاة على النبي محمد – عليه السلام – وأبيات المديح والحب والتسامح والمروءة والشجاعة والقوة والثناء والاعتزاز.

واكتسبت الدحية خلال العامين الأخيرين انتشارًا واسعًا في فلسطين، فلا يكاد حفل زفاف يخلو منها، حتى أنها دخلت الإعلانات التجارية، وذلك بعد إدخال إيقاعات حديثة إليها، وبعد أن غنّاها فنانون يُشار إليهم بالبنان على مستوى البلاد.

يقول باحثون إن أصل الدحية يرجع إلى الصحابي المسلم دحية الكلبي واحتفاء قومه به بعد عودته سالمًا من عند هرقل ملك الروم

ووردت الدحية في معاجم اللغة بعدة معاني ودلالات، أهمها فارس الجند، فيما أرجعها بعض الباحثين والمؤرخين إلى الصحابي المسلم دحية بن خليفة بن شرارات الكلبي، وهو سفير النبي محمد إلى هرقل ملك الروم، وقد أُشيع أن ملك الفرس قتله، ولكن قبيلة الشرارات بقيت تترقب عودته إليها سالمًا.

اقرأ/ي أيضًا: هل تكسر أعراس الفلسطينيين ظهورهم؟

وبعد عودة دحية اصطف قومه صفين متقابلين، وأخذوا يرددون مرحبين به كلمات "دحية دحية دحية"، وأطلقوا صرخات الشجاعة والمروءة والنصر، ومن ثم شاع استخدامها في المعارك والغزوات للتعبير عن الشجاعة والنخوة والشهامة، ولشحذ همم ومعنويات الجنود، ثم بدأت كلماتها تنمو لتواكب متطلبات المراحل المتعاقبة، وفق ما أفادنا به إدريس جرادات، الباحث في شؤون التراث والفلكلور.

وأورد الباحث عبد الرحمن المزين في كتابه "الفكر الأسطوري الكنعاني وأثره في التراث الفلسطيني المعاصر"، أن الدحية حفلة من الرقص يشترك فيها العشرات من الرجال، يصطفون مقابل أو جانب بعضهم البعض، وبعد برهة من الوقت تخرج امرأة مقنعة لا يظهر من ملامحها شيء، تحمل بيدها سيفًا يسمى "الحاشي"، وترقص بينهم، فيدب الحماس في الرجال ويقتربون منها عبر تضييق الحلقة، فتردهم بسيفها فيبتعدون من حولها.

يرجع الرجال للوراء وهم يضربون بأقدامهم الأرض ويصفقون بأيديهم، مرددين اللازمة "حي حي يوه"، وعيونهم ترنو على "الحاشي"، ويجد شعراء البدع الفرصة مواتية لكشف مقدراتهم البلاغية في التعابير الجميلة والتشابيه العجيبة، إلا ما حفظته الذاكرة ووعاه الوجدان من أبيات معروفة لدى الكثيرين، فيزيدون عليها ما يجعلها تتناسب مع تلك الأمسية.

يقول الباحث جرادات، إن الدحية نمط فنّي للتفريغ النفسي للمشاعر والعواطف والانفعالات والتعبير عن خلجات النفس، حيث ينتابها اهتزازات للرأس والخصر، ولا تخرج عن السطرين المتقابلين، وفيها نوع من الحشمة والوقار، الأمر الذي يدفع كبار السن والشباب للانخراط في صفيها والمشاركة فيها.

في الدحية حشمة ووقار، ما يجعل كبار السن ينخرطون فيها، وهي في جنوب فلسطين بديلة للزجل في شمالها

ويضيف جرادات لـ"ألترا فلسطين"، أن الدحية بقيت مرتبطة بالفرح والترحيب والشجاعة ومشاركة جميع أبناء القبيلة البدوية لاستقبال المهنئين في الأعراس، واستخدمت بديلًا عن صيحة الحرب، والتعبير عن رمزية النصر والإنجاز في الحروب والمعارك والغزوات، عبر إطلاق صيحات تشبه هدير الإبل الهائجة، وصيحة الذئب عند الانقضاض على الفريسة.

اقرأ/ي أيضًا: مزادات الفرح في فلسطين

ويشير إلى أن الدحية صارت نمطًا غنائيًا يعبر عن الفرح والنصر والتنافس والتسابق في الحداء، وتنتشر بشكل أكبر في منطقة الجنوب الفلسطيني بحكم قربه من الأردن وسيناء، وهي بديل للحداء والزجل الذي ينتشر في منطقة الشمال الفلسطيني بحكم قربه من مناطق سوريا ولبنان.

الفنان أيمن السبعاوي، أحد أشهر مغني الدحية في الضفة الغربية، قال لـ"ألترا فلسطين" إن الدحية غابت عن المناسبات الاجتماعية المحلية بشكل شبه كلي، منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى العام 2004، ثم عادت بصورة أقوى مما كانت عليه في السابق، بعد إدخال إيقاعات جديدة عليها، واستخدام آلات موسيقية واستعمال مكبرات الصوت في غنائها.

ويرجع الفنان السبعاوي الإقبال الواسع من قبل المجتمع المحلي على الدحية، "لبساطة وجمالية كلماتها النابعة من جو الفرح والواقع المعاش، ولإعادة الاعتبار لهذا التراث البدوي الأصيل، بعد السخط الواسع من قبل الشباب وكبار السن من الأغاني الهابطة التي تصاعد انتشارها مؤخرًا، خاصة مع تنامي انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي".

ويتقاضى الفنان السبعاوي 8 آلاف شيقل (ما يقارب 2100 دولار) لإحياء حفلة دحية، لكنّه أشار إلى عدم وجود سعر ثابت، فالأسعار تتراوح من فنّان لآخر

إدخال إيقاعات جديدة وآلات موسيقية في الدحية أسهم في زيادة انتشارها، وذلك ردًا على "الأغاني الهابطة" كما يعتقد فنانون

الشاب المغترب معتز جرادات (27 عامًا) من بلدة سعير إلى الشمال من محافظة الخليل، قرر عندما وطأت قدماه مسقط رأسه، بعد غياب استمر لمدة 9 سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية، أن يكمل مراسم زفافه بفرقة دحية، يقول: "حتى أثناء قيادتنا لمركباتنا وسط شوارع الولايات المتحدة الأمريكية نستمع لأغاني الدحية والأغاني الشعبية، كوسيلة لإبقاء الوجدان معلقًا بفلسطين".

ويبدو لافتًا استمتاع فئة الشباب بأغاني الدحية، من خلال مشاركتها على حساباتهم في مواقع التواصل، وتحميلها على هواتفهم النقالة، والاستماع لها أثناء العمل في المحلات التجارية، أو في الورش المهنية أيضًا، وكذلك في سياراتهم الخاصة.

أما بالنسبة للفتيات، فإن المواقف تنقسم بين الانزعاج من الدحية والاستمتاع بها، إلا أن إقبالهن على الاستماع لها يبدو أقل من فئة الذكور. تقول العشرينية رغد أبو شرار إنها لا تستمع لأغاني الدحية لأنها لا تفهم كلماتها ومعانيها، ولا يناسبها الاستماع إليها، فيما تقول الشابة سوسن عيايدة إن أغاني الدحية تمنحها مزيدًا من الطاقة للرقص، على الرغم من أنها لا تفهم معاني كلماتها.

وتحدّث بسام الحداد، عضو اتحاد الفنانين الفلسطينيين، عن ترتيبات تجري من أجل تنسيب العديد من فناني الدحية إلى الاتحاد، "بهدف تنظيم سوقها والارتقاء بالمستوى والمحتوى الخاص بها"، مضيفًا، "الدحية موجودة بثقافتنا الفلسطينية كموروث ثقافي فلسطيني أصيل، ولها مغنوها وشُعّارها، وتقام لأجلها العديد من المسابقات".

وأشار الحداد في حديثه لـ"ألترا فلسطين" إلى أن إدخال الإيقاع الموسيقي على الدحية، واستخدام كلمات تحاكي هموم الشباب واهتماماتهم، ساهم في زيادة انتشارها بينهم مؤخرًا، وخروجها من إطار المناسبات البدوية، بعد أن مرت بسنوات عجاف منذ سبعينات القرن المنصرم.


اقرأ/ي أيضًا:

الجريشة.. من البيدر إلى موائد الأفراح

نساء معلقات على حبال ظلم المجتمع والقانون

عريس وعروس من ذوي الأعاقة.. غير ممكن في غزة