قبل ثلاث سنوات، تعرضت لقراءة صعبة لـ600 صفحة في كتاب نعومي كلاين "عقيدة الصدمة". الكتاب يشرح سيطرة أقسى مدارس الاقتصاد المرتبط بجامعة شيكاغو، حيث البروفيسور ميلتون فريدمان، حامل جائزة نوبل في الاقتصاد، الذي قدم هو وطلابه على مدى عقود استمرت من السبعينات إلى بداية القرن الحالي، استشارات لدول كانت على حافة الانهيار، تضمنت سلسلة من القرارات الاقتصادية التي شكلت صدمات في تلك الأسواق.
كان مُبرر البروفيسور، أن الصدمات هي المخارج، وأن السوق سيعيد تنظيم نفسه بنفسه. ولكن حال هذه الدول بعد سنوات من التجربة أشار إلى واقع إنساني مرير
كان مُبرر البروفيسور، أن الصدمات هي المخارج، وأن السوق سيعيد تنظيم نفسه بنفسه. ولكن حال هذه الدول بعد سنوات من التجربة أشار إلى واقع إنساني مرير متشابك مع حالة حقوق إنسان مزرية وجرائم كاملة من رجال دولة ورجال أعمال وجدوا في "عقيدة الصدمة" -عنوان كتاب كلاين- المتبوع بعبارة "صعود رأسمالية الكوارث "، مرتعًا خصبًا لربح متوحش، وصيغة جديدة من الدولة الفاشية والبوليسية، مثلما حدث في تشيلي بنوشيه وروسيا يلتسين ودول أخرى كثيرة.
كيف صنعوا الصدمة؟
تعود الكاتبة إلى تمويل الاستخبارات الأميركية في خمسينات القرن الماضي لأستاذين في قسم علم النفس بجامعة ماكغيل، لإجراء تجارب في الطب النفسي حول محو الذاكرة لاستخدامها في الحرب ضد الشيوعيين وفي استجواب الجنود الأسرى. ولفك لغز سرعة اعتراف الجنود الأميركيين للسوفييت.
الأستاذ الأول اسمه هيب، أجرى تجربة مذهلة يدور محتواها حول التعذيب، وأثبت أن الروس قد يكونوا أجروا تجربة نفسية على الجنود عبر "العزل الحسي" وليس التعذيب، وبالتالي تسهيل التأثير السلوكي حتى يستسلم المعزول دون أن يشعر للمحققين.
تجربة هيب كانت على الطلاب في الجامعة، حبسهم لأيام قليلة وعزل أجسادهم بنظارات سميكة وسماعات تبث ضوضاء وأنابيب كرتونية تعزل أيديهم ورؤوسهم عن أجسامهم وتفقدهم حاسة اللمس. بعد أيام استسلم الطلاب لأوامر العزل وصاروا يتحدثون كالأطفال ويشعرون بالأبوة والأمومة تجاه الممرضين. وأصبحوا يؤمنون بأشياء غير علمية مثل وجود الأشباح.
نتائج مذهلة، أثبتت أنه بالإمكان محو الذاكرة. توقفت التجربة، أنهاها الطبيب هيب بعد اتهام أحد الطلاب له بأن العزل هو التعذيب بعينه، وعادت "السي أي ايه" لحربها وسجونها وعملياتها القذرة في العالم.
نتائج مذهلة، أثبتت أنه بالإمكان محو الذاكرة. توقفت التجربة، أنهاها الطبيب هيب بعد اتهام أحد الطلاب له بأن العزل هو التعذيب بعينه
بعد سنوات، وجدت "السي أي ايه" طبيبًا أكثر طمعًا في التمويل، في نفس القسم ونفس الجامعة. الطبيب كاميرون، أعاد تشطيب اسطبلات غير مستعملة في الجامعة، وصمم غرف العزل وأدخل المتطوعين للتجربة، وأزال الساعات والرزنامات من الغرف، وأعطاهم أدوية تنويم كي يناموا 22 ساعة في اليوم الواحد، وعرَّضهم في لحظة إيقاظهم لتناول الطعام إلى أصوات صادمة وموسيقى صاخبة ونباح كلاب متوحشة، فظهرت نتائج قوية على الطلاب، صاروا خاملين ومتقاعسين ومهدمين نفسيًا ومسيطر عليهم بالكامل. الهدوء الكامل هو التعذيب الكامل، هو السيطرة على المأسورين، هو ماكينة علمية تمحو الذاكرة وتولد بشرًا تحت السيطرة، وهادئين.
اقرأ/ي أيضًا: عن أصص الورد وعجينة الفلافل والبروفيسور والإيجاز
هذه هي خلطة نعومي كلاين في فضح "رأسمالية الكوارث" في العالم، ثالوث من استخبارات ورجال أعمال ونظرية فريدمان الاقتصادية بـ "عدم التدخل في الأسواق"، وحملة الدكتوراه من طلابه الذين لا يفرقون بين تدمير الأسواق وخلقها، وبين إيذاء ملايين الفقراء حول العالم وإشفائهم من الفقر والتشرد والجوع والحياة العارية على حد قولها.
كتابٌ مذهلٌ ابتعدتُّ عنه بهدوء حتى لا أصاب بالرهاب اليساري، ولكنه شكل أطول تحقيق صحفي قرأته في حياتي، نظرية اتهام واضحة وتتبع خيوط عمليات "السي أي ايه" من دبابات الانقلاب في تشيلي 73، إلى نص الرسالة التي أرسلها فريدمان نفسه إلى الجنرال بنوشيه يعلمه فيها سياسة الصدم لتسهيل عملية التغيير.
وتتابع كلاين تحقيقها الفذ، من سانتياغو إلى البرازيل وبوليفيا، إلى بولندا والصين وجنوب أفريقيا. يركض "صبيان مدرسة شيكاغو" يؤسسون لأسواق مباعة للمستثمرين الأجانب ومسلوبة القومية، وديمقراطيات مزيفة يحكمها العسكر بالمذابح والصدمات الدستورية، ومديونيات لا تنقرض ومدارس تنموية تموت بلا ضجيج، وإعادة إعمار مجرمة أكثر من العمليات الحربية في العراق وفي دول الصراع.
تركتُ الكتابَ للغبار وذهبت لأقرأ فريدمان ونظرياته، وأعجبتني إلى حد ما. وعدتُّ إلى انفصامي الدائم في النظريات الفكرية.
أما الآن، وقد جاء الفيروس، فقد أعاد لي شجون كتاب نعومي كلاين كاملة، لماذا يحجرنا الفيروس مثل طلاب تجربة العزل والصدم؟ لماذا يمحو واقعنا مثلما محت تجربة كاميرون الذاكرة قبل سبعين عامًا؟ لماذا هدأ العالم فجأة بلا مطارات ولا شوارع واستسلم للعزل؟ لماذا تسلم الجماهير أمرها للحكومات؟ وتهدأ الهويات القومية، وتلقي الدول الصغيرة نفسها في أحضان الدول الكبيرة، مثل خنوع طلبة التجربة للممرضين.
من أعد الخطط ليشتري خسائر الأزمة؟ من سيعد بناء الاتصال البشري خارج الواقع الواقعي وباتجاه الواقع الافتراضي؟
هل جنَّد رجل استخباراتٍ ما، أولاد واد السيلكون ونخب صناعة التكنولوجيا والانترنت، لكل هذه الصدمة؟ أي الشركات ستأكل صحة العالم بعد أشهر؟ أيُّ سياسات تأمين صحي ستبيع دور المسنين والمستشفيات الحكومية لمقاولين و"رجال سيئين"، مثلما يصرح ترامب نفسه.
من أعد الخطط ليشتري خسائر الأزمة؟ من سيعد بناء الاتصال البشري خارج الواقع الواقعي وباتجاه الواقع الافتراضي؟ كيف سيحلون أزمة "التباعد الاجتماعي" الذي يلوح لنا الآن كعلاج وسيصير شرط حياة في المستقبل؟
هل سيغيرون التواصل الاجتماعي ليصير "توصيلاً اجتماعيًا" للبضائع والتجارة الالكترونية، ما مصير الزمن في ظل الحجر الصحي المفتوح؟ هل ستظل ساعات العمل والعطل والإجازات والمواعيد كما هي؟ ثُمَّ ما مصير المكان اقتصاديًا؟ هل ستظل هناك حاجة للإيجار والتملك والعقار والرهن والمساحة؟ ما مصير البنوك بعد إلغاء صك العملات الورقية والمعدنية والدخول في العملات الرقمية؟ من سيحكم البورصات والمؤسسات المالية بعد اندثار العملات؟ ما مصير المواصلات والشوارع المتهمة بنقل الفيروس على عجلات السيارات؟
تحاصرني فكرة أن "التباعد الاجتماعي هو الحل"، لماذا مطلوب تفكيك التواصل الاجتماعي؟ أو كيف سيشغلون فكرة التباعد كعملية اقتصادية ضخمة في هذا العالم؟
استذكار كتاب كلاين، يدفع بعشرات الأسئلة التي ستصرخ في برية متهمة علميًا على أنها تحليل مؤامرة، بينما على الأرض يلعبون "رأسمالية كوارث" منذ عقود. ويواصلون!
اقرأ/ي أيضًا: