فلنتذكّر أننا دومًا نخفي التطريز بداخلنا؛ نطرّزُ أنفسنا عبرَ الأماكن والأشخاص الذين يمرّون بنا، حتى لو توقفنا عن فعل التطريز بالخيط والإبرة اليوم.
عندما نجلسُ لساعات في سمرٍ وضحك؛ فنحن ندركُ أجزاء من ذواتنا، والتي اختفت بضيقِ وقتنا في الحديث مع الذات، وندركُ مجددًا في حوارٍ تلو الآخر أننا نحتاج جلساتٍ لا تنتهي ولا وقتَ لها لنعرفَ التفاصيل الموجودة بداخلنا بعيدًا عما يدورُ حولنا.
عندما نجلسُ لساعات في سمرٍ وضحك؛ فنحن ندركُ أجزاء من ذواتنا، والتي اختفت بضيقِ وقتنا في الحديث مع الذات
في جلساتنا نعيدُ ونكرر: تجاربنا بالأماكن وشخوصها وتفاصيلها اليومية - حتى ما نظنّهُ تافهًا - هي من معرفتنا وتعريفنا لمفهوم الوطن، ولا أدري إن كانت ترجمتنا للـ home واقعيةً فعلًا للوطن! على إشكالية أننا لا نعرفُ أو ندركُ ذاتنا إلا من خلال الآخر، إلّا أنّ الحاجة لمتاهات الدواخل يرتبط بالشخص وذاته، حالات الوعي ودرجات اللاوعي التي يبدأ بتقشيرها العقل بشكلٍ صادمٍ تدريجي.
***
إدراكٌ فجائي لمتاهات الدواخل، فكل غياب يحملُ حضورًا لا يُمحى، ويحملُ نصًا جديدًا فيّ.
اقرأ/ي أيضًا: حرب الكلب الثانية: رواية خيال علمي تفتقر إلى الخيال
خيوط الذاكرة والفقد والغياب، هي بألّا ننسى أبدًا أنّ كلّ هبوطٍ للذاكرة ما هو إلا حالةُ صعود، كجدلية الموت الذي يُبعثُ حياةً، أو كثنائية الصعود كعملية بناءٍ تطول، والهبوط تفكيكٌ للذاكرة، فالذاكرة حالةٌ انتقائية جدًا، تتذكرُ لَمسة يدٍ عابرة في لحظاتٍ لم تكن متوقعة، في حين تنسى شهورًا من الأحداث المزدحمة أحيانًا.
***
نستطيع أن نجادل بكل قوة أن انتقائية الذاكرة هي كما انتقائية الوعي وإدراك مداخل اللاوعي، أو أن انتقائية الذاكرة تعادل في أثرها حالة الاشتباك مع تفاصيل الوعي، فكلاهما ينتجان حالةً من الخلخلة، والتي ترتبط بحالة الوعي التي تقررُ أن ترتبط بالقصص لترتبَ فهمها للواقع، ونعودُ قليلًا لتطريز أنفسنا؛ فبعد حالات الغياب التي تستدعي حضورًا، وبعد هبوط الذاكرة لتشكّل استحضارًا جديدًا لما كان مخفيًا، فإننا نخلقُ خلال تطريز الذات قصصًا تعلّمَ العقل ألا يمشي دونها، وألا يتتبعَ يومه دونَ القص.
أن تطرز، أن ترسم، أن تخربشَ الكلمات متتالية دونَ أي معنى ممكن، يعني أن تبدأ كلّ يوم بقصة جديدة
أن تطرّز، أن ترسم، أن تخربشَ الكلمات متتالية دونَ أي معنى ممكن، يعني أن تبدأ كلّ يوم بقصة جديدة، وأنكَ مع كل التعب الذي نهشكَ من الداخل، أنتَ تدركُ أنّك تعيشُ قصةً جديدة. أنّ كلّ حلقة من "تلفزيون الواقع" الذي تعيشه كلّ يوم، والذي يستحضرُ منكَ قممًا من الحزن أو الفرح هو جزءٌ من قصةٍ واحدةً أوسع؛ لربما قصة من مجموعات تعيشها روحك وهي تتنقل بين الحيوات وبين الأفراد.
في وسط تصوّر الذات، تقنعُ نفسك بأنّك وإن كنتَ شجرة ذات يوم، كنتَ ستكون شجرة ضخمة ضخمة! تمدُ حتى جذوعكَ تحت الأرض، قبل فوقها، لتكونَ قريبًا من الأشجار الأخرى، يعني أنّكَ مجددًا تقصدُ تعريف القصص وبدأها أينما تكون، وأنّك تغزلُ بداخلكَ حتى خيالًا باليًا عمّا كان. وأنّكَ مجددًا ولألف مرة تعْرِفُ نفسكَ والآخرين لتعيشَ قصصًا وقصص، ولتعرفَ أنكَ كلما طرّزت حرفًا تغزلُ بداخلك أرضًا جديدة لتكونَ قصةً أكبر، أعمق، أغرب.. القصصُ والقص.
القصص بداياتنا العجيبة التي تطرحُ بذرًا في صحراء، والتي نختارها لنخوض فيها، وبعد زمنٍ ليس بطويل تدركُ أن كل قصة ولو سمعتها عن بعد تركت خيطًا وجدَ له مكانًا، وأن كل قصةٍ مرّت بك أو من خلالك تركت مكانها، تركت شكلًا مُطرّزًا مختلفًا وجديدًا، أو قديمًا مهترئًا كما اهتراء الروح، ولكن أهم ما في هذا التطريز أنَّا بأريحية إيجاد الأشكال المختلفة لهذا التطريز بداخلنا؛ فينيق، بندقية، ياسمينة، تنين البحر أو أيلٌ جديد.
اقرأ/ي أيضًا: