"غابت السيولة وحضرت المقايضة" هذا هو واقع الحال في قطاع غزة مع استمرار الحرب الضارية التي تشنّها دولة الاحتلال الإسرائيلي وتُتمُّ عامها الأول في 7 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وتعمّقت خلالها نسب الفقر والبطالة.
استبدال السلع فيما بين الناس بات شائعًا خلال الحرب الإسرائيلية المستمرّة على قطاع غزة
لم يعد هذا القطاع الساحليّ الصغير كما كان عليه قبل هذه الحرب غير المسبوقة، فأهله ليسوا هم ذاتهم وقد فتكت الحرب بأرواحهم وأحلامهم، ولا الجغرافيا هي الجغرافيا وقد نالت آلة الحرب والتدمير من البنية التحتية ولم تبق حجرًا على حجر، ودمرت المنازل السكنية والمدارس والجامعات والمستشفيات والأسواق والمعالم الأثرية، وأتت على مل مفاصل الحياة.
"لقد أعادونا إلى ما قبل الحضارة المدنية وليس فقط 50 عامًا"، يقول غزيون وهم يستحضرون تهديدًا لوزير جيش الاحتلال يوآف غالانت مع الساعات الأولى للحرب بأنه سيعيد القطاع 50 عامًا للوراء. ويتندر الغزيون على ذلك بمزيج من القهر، ويقولون إنه نسي أن يضيف صفرًا، فما فعلته آلة الحرب والتدمير يفوق الوصف.
وتزامنًا مع الحرب المجنونة فرض الاحتلال حصارًا مطبقًا وأغلق كل المنافذ والمعابر البرية مع القطاع، وحاصر 2.2 مليون فلسطيني في أدق تفاصيل حياتهم اليومية، ويزداد الخناق عليهم مع شح السيولة النقدية، ويواجهون تعقيدات بالتداول بالعملة المهترئة، نتيجة خروج البنوك عن الخدمة وتوقُّف حركة استبدال عملة الشيقل المتداولة في قطاع غزة.
مقايضة في زمن الحرب والحصار
وإزاء هذا الواقع المرير وجد الغزيون أنفسهم مضطرين للعودة إلى "زمن المقايضة"، الذي سبق معرفة الإنسان للعملات النقدية، من أجل الوصول إلى احتياجاتهم الحياتية اليومية وتأمين القليل المتوفر منها، عبر استبدال السلع فيما بينهم، إما مباشرة أو عن طريق منصّات التواصل الاجتماعي.
تقول امرأة أربعينية من مدينة خان يونس في جنوب القطاع إنها استبدلت معلّبات سريعة التحضير مع أخرى تحتاج إلى الطهي على النار، وتقول هذه المرأة التي اكتفت بتعريف نفسها بـ "أم عاهد" إنها وأسرتها يفضّلون طهي الطعام على النار، فيما صديقة لها نازحة من شمال القطاع وتقيم في مدرسة لا يتوفّر لديها غاز الطهي أو الحطب والأخشاب لإشعال النار، تُفضّل المعلبات سريعة التحضير من أجل إطعام أبنائها الأطفال.
ولا تنظر أم عاهد لما لجأت إليه بأنها "معاملة تجارية"، فهي لا تعرف المقايضة ولم تسمع بها من قبل، وببساطة تقول هذه المرأة التي تزوجت في سن مبكرة: "الأسواق غالية جدًا وزوجي عاطل عن العمل، وحتّى المساعدات باتت شحيحة وغير متوفّرة بسبب الحصار، والحرب مستمرة ويجب أن نتدبّر أمورنا".
ومنذ اجتياحها مدينة رفح في أقصى جنوب القطاع في 6 مايو/أيار الماضي، تفرض قوات الاحتلال قيودًا مشددة على حركة توريد السلع والبضائع والمساعدات الإنسانية للقطاع عبر معبر كرم أبو سالم التجاري الوحيد، فيما دمرت معبر رفح البري مع مصر وأعادت احتلاله.
وتقول أم عاهد إن معلبات خزنتها في أوقات سابقة تحسُّبًا لأوقات أكثر شدة توشك على النفاد، وقد اضطرت إلى استبدال عدد منها، وبيع عدد آخر من أجل توفير احتياجات أخرى لأطفالها.
وبدوره استبدل محمد الهندي ثلاثة لترات من البنزين بنحو 6 كيلو من غاز الطهي. ويقول هذا النازح المقيم في خيمة بمنطقة مواصي خان يونس لـ "الترا فلسطين" إنه استبدل البنزين الخاص بدراجته الناريّة بهذه الكمية من غاز الطهي من أجل التّسهيل على أسرته في إعداد الطعام.
وهذه ليست التجربة الوحيدة للهندي النازح من شمال القطاع لجنوبه باللجوء للمقايضة، ويقول إن استبدال السلع فيما بين الناس بات شائعًا خلال الحرب، خاصة فيما يتعلق بمحتويات طرود المساعدات، حيث تجري عمليات الاستبدال حسب حاجة كل شخص.
يمتلك عليّ لوح طاقة شمسية، يشحن لبعض جيرانه هواتفهم مجانًا، ويتلقى منهم خدمات أخرى في المقابل. جاره لطفي مثلًا يحلق له شعر رأسه ولحيته مرّة كل شهر.. شحن هاتف مقابل الحلاقة!
أمّا علي شاب ثلاثيتي يمتلك لوحًا للطاقة الشمسية، ويقول إنه يشحن لبعض الجيران أجهزة هواتفهم النقّالة مجانًا، وهم في المقابل يقدّمون له خدمات أخرى، ومنهم مثلًا جاره لطفي الذي يمتلك صالون حلاقة شبه مُدمَّر يذهب إليه لتزيين شعر رأسه ولحيته مرة كل شهر ولا يتقاضى منه مقابلًا، وكأنّ "شحن هاتفه بمقابل الحلاقة".
سوق افتراضي
وكهذه الحالات ينتشر على نحو لافت بين الجيران والأقارب وبشكل وديّ أسلوب المقايضة، واستبدال سلعة بأخرى، ليس بالضرورة أن تكون متشابهة ومتناظرة، ففي مدينة غزة ومناطق شمال القطاع التي تتعرض لعزلة إسرائيلية حادة ويعاني زهاء 300 ألف فلسطيني من المجاعة، اضطر سكان إلى استبدال أشياء متنوعة بالغذاء، واضطرت نساء إلى رهن أو بيع مصاغهن الذهبيّ من أجل الحصول على الطعام.
وبين الحين والآخر تجد على منصات التواصل الاجتماعي من يعرض هاتفه النقال في مقابل علبة دواء لوالدته، وآخر يعلن نيته استبدال دراجته الهوائية بمقابل توفير بعض الطعام لأطفاله، وآخرون كثر لكل منهم حاجته التي يبحث عنها ليقاوم المجاعة ويخترق جدار الحصار الخانق.
البعض من الأقارب والمعارف، أو الجيران في مخيم واحد، تبادلوا السلع وديًا وبشكل مباشر، وآخرون استبدلوها في مناطق متباعدة سواء في شمال القطاع أو جنوبه، عبر إعلانات على منصات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي شجّع الشاب الناشط أحمد المقيّد على تدشين سوق افتراضي بدأه بصفحة على موقع التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" بعنوان: "سوق المقايضة الأول في قطاع غزة".
ويقول صاحب هذه المبادرة لـ "الترا فلسطين" إن الهدف من فكرة السوق الافتراضي التسهيل على المواطنين الباحثين عن احتياجاتهم عبر نظام المقايضة ولا تتوفر لديهم الأموال لشرائها، أو أنها غير متوفرة في الأسواق، ويريدون الحصول عليها باستبدالها على سلع أخرى.
ولاقت فكرة المقيد استحسانًا ،ويكتسب السوق الافتراضي يومًا بعد آخر أعضاء جدد ينضمون إلى المجموعة، ويقول إن القدرة الشرائية تراجعت بشكل كبير لدى الغزيين بسبب الحرب والحصار وفقدان الآلاف لأعمالهم ومصادر رزقهم، وبأسلوب المقايضة يمكنهم تبادل السلع فيما بينهم لتجاوز أزماتهم حتى عودة الحياة إلى طبيعتها بعد توقف الحرب.
وتتم المقايضة بين الراغبين من أعضاء السوق الافتراضي بدون أي وسطاء، ووفقاً للمقيد فإن هذا ساعد على نحو كبير في حصول كل شخص على احتياجاته من دون ضغوط أو ابتزاز من وسطاء وتجار الحروب.
بأسلوب المقايضة يمكن لأهالي قطاع غزة تبادل السلع فيما بينهم، لتجاوز أزماتهم حتى عودة الحياة إلى طبيعتها بعد أن تتوقّف الحرب
لكن المقيد يقر بتعقيدات تعترض طريق انتشار الفكرة على نطاق أوسع، أبرزها استغراب الناس لمثل هذا الأسلوب التجاري غير المعهود، وندرة العرض والطلب على السلع الشحيحة جراء الحصار والتدمير الهائل الذي طاول المنشآت الصناعية والتجارية الصغيرة والكبيرة.
ويقرُّ صاحب السوق الافتراضي أن "المقايضة" خيار طارئ لهذه الفترة العصيبة، ولا يمكنه سدّ الفراغ كليًا، والناجم عن شح السيولة، وصعوبة وصول المواطنين لحساباتهم المصرفية سواء بسبب خروج غالبيّة المصارف عن الخدمة، أو لاستغلال تجار لفئة الموظفين وابتزازهم بعمولات كبيرة لصرف رواتبهم الشهرية.
ويأمل هذا الشاب المبادر أن تنتهي حرب الإبادة قريبًا، وأن يعود الغزيون إلى حياتهم الطبيعية التي يعتقد أنهم سيحتاجون إلى سنوات من أجل العودة إليها في ظل حجم الخسائر والدمار الهائل في كل تفاصيل حياتهم.
خيار الضرورة
وتاريخيًا تُعرف المقايضة بأنها أسلوب بالمعاملات التجارية كان شائعًا في فترة ما قبل معرفة الناس للعملات النقدية سواء الورقية أو المعدنية، ويتم عبره تبادل البضائع أو الخدمات مباشرة بسلع أو خدمات أخرى من دون استخدام وسيلة تبادل مثل المال.
ويقول الخبير بالشؤون الاقتصادية والمالية حامد جاد لـ "الترا فلسطين" إن المقايضة اختفت من غالبية دول العالم مع التطور الهائل في وسائل البيع والشراء والتبادل التجاري، ويفسّر عودة هذا الأسلوب البائد للقطاع بشح السيولة، وبروز أزمة العملات المهترئة والتالفة التي يرفض التجار والباعة التداول بها، وبعضهم يمارس الابتزاز بقبولها بأقلّ من قيمتها الحقيقية.
المقايضة اختفت من غالبية دول العالم، لكنّها عادت لغزة مؤخرًا
وأسلوب المقايضة كما هو معروف –بحسب جاد- غالبًا ما يتم بصورة ثنائية بين شخصين، وقد يكون متعدد الأطراف وبوساطة عبر منظمات أو أشخاص مقايضين، ولا تزال دول تتعامل بصورة أو بأخرى من المقايضة كأن تستبدل سلعة أو منتج أو محصول لديها مع دولة أخرى مقابل خدمات أو أشياء أخرى تملكها أو تنتجها.
وفي حالة قطاع غزة، يقول الخبير الاقتصادي إنّ الأمر غير خاضع لمعايير اقتصادية أو قواعد متعارف عليها في ظل خضوعه لحالة حرب ضارية وحصار حاد، تفرض على سكانه البحث عن بدائل طارئة من أجل التعاملات اليومية وتدبر شؤون حياتهم.