في الحديقة الخلفية لمنزله، ينحني هاشم غزال "ملك الصمت"؛ ليسقي "شتلات الحرب" وما تبّقى من الأمل في قطاع غزة بالقليل من الماء الذي جلبه بعد طابور صباحيّ مرهق ومحفوف بالمخاطر، سبقه رحلةٌ أكلت فيها حرارة الشمس وجهه الشاحب خلال جمعه للحطب من محيط منزله الذي دمّرته آليات الاحتلال بشكلٍ جزئي.
يعيش هاشم رفقة 5 من أبنائه وأخته الصم مع زوجته الناطقة "أم هيثم" في منزله شرق غزة.. فكيف يتدبّر أمره وعائلته أثناء حرب الإبادة التي تشنّها "إسرائيل" على القطاع منذ 8 أشهر؟
أمام إعاقته السمعية، فإن التّشنج هو تصرّف هاشم غزال الوحيد أمام مشاهد القصف الإسرائيلي على شمال غزة، مع هاجس دائم باحتمالية الموت، وخطر الإصابة المنزوع من احتمالية النجاة والقدرة على المناشدة في أيّ قصفٍ
راقبته قليلًا وقد غزا الشيب رأسه، واختفى نصف وزنه، كما تسلّل اليأس لملامحه، ثمّ ألقيت التحية بلغة الإشارة وبرفقتي زوجته، ليردّ السّلام برفع كفيه ملوّحًا بالحمد حينما سألته عن الحال.
"هاشم المزارع"، هكذا صار يُعرّف نفسه بقنوط ابتدعه العدوان في قلبه، وهو الذي عرفتُه مديرًا لقسم المهن في جمعية "أطفالنا" للصم، لا يعرف لعمله طريقًا سوى الإتقان، يستقبل الجميع، يحتضن المواهب، يوجّهها ويتوجها بمعارضٍ فنية يزورها العرب والعجم.
يعيش هاشم أبو هيثم (59 عامًا) رفقة 5 من أبنائه وأخته الصم مع زوجته الناطقة "أم هيثم" في منزله شرق غزة، في منطقةٍ هي الأقرب للحدود التي تشهد على كثافة القصف وسخونة الأحداث، وهي ذات المنطقة التي شهدت على الاقتحام البريّ لآليات الاحتلال وقواته، وهو ما دفعني باستغرابٍ لأسأله وزوجته التي تجلس معه في الحديقة وترافقه كطوق النجاة: "كيف دبرتوا حالكم بالحرب؟!"، كيف تعامل هاشم مع كلّ هذه الأحداث في ظل إعاقته السمعية؟ وكيف تجاوز أصوات القصف بقربها وبعدها، والاقتحامات بضيقها واتّساعها؟ ماذا عن أحواله المعيشية وإمكانية العمل؟ ماذا عن صولات النزوح القسرية؟ وماذا عن العلاج في حال احتاج؟ وهو الذي أجرى عملية قسطرة قلبية قبل العدوان بفترةٍ قصيرة.
ردّ هاشم: "شو أعمل وأنا أصم بالحرب؟!"، تبعه وابلٌ من الأسئلة الكيفية بصورةٍ لا تنُمّ سوى عن استقرار المصاب في قلبه "كيف بدي أسمع صوت القصف؟ كيف أحكي للناس عن دوري في طوابير المياه؟ كيف بدي أطلب المساعدات؟!"، سألني إياها تباعًا وهو يُدرك صعوبة الإجابة كما أُدركُ قسوة ما يشعرُ به وقد غاب عن سمعه كلّ ما يحدث في محيطه.
أمام إعاقته السمعية، فإن التّشنج هو تصرّف هاشم غزال الوحيد أمام مشاهد القصف الإسرائيلي على شمال غزة، مع هاجس دائم باحتمالية الموت، وخطر الإصابة المنزوع من احتمالية النجاة والقدرة على المناشدة في أيّ قصفٍ
يقول: "هذه الحرب كانت صعبة، ما في دخل ولا أكل، ومن نزوح لنزوح، والتواصل مع الصم صعب بسبب غياب الانترنت، والوضع ما بيخليك تفكّر إلا بكيف تمشي يومك".
خسرَ هاشم خلال العدوان جلّ ما يملك، عمله في جمعية "أطفالنا" للصم التي دمّرها الاحتلال في منطقة الرمال، ليبكي فقدها كابنةٍ خطفت حياتها آليات الاحتلال، ويقاطع الطعام أسبوعًا كاملًا، حدادًا عليها، "فهي دخله الوحيد وكلّ حياته" على حد وصفه.
كما فقد هاشم غزال منزله الذي أفسدته قذائف الاحتلال مصيبةً غرفته التي لم يتم على تجهيزها بأجود أنواع الأثاث سوى عامٌ واحد، وفقد ملابسه، و35 كيلوغرامًا من وزنه، شاب شعره، عدا عن حرمان الاحتلال له من رؤية لبناته الثلاثة المتزوجات اللواتي نزحنّ قسرًا لجنوب قطاع غزة، شاكيًا سوء شبكة الاتصالات وغياب الانترنت الذي ضاعف من ولع اللقاء في غياب إمكانية التواصل عبر الكاميرا.
ابتسمت "أم هيثم"، زوجة هاشم غزال، بلطفٍ مُبطن بالأسى لتقول: "والله ملابسه استعارة، ما ضل شيء بغرفتنا" ثمّ تغيرت نبرة صوتها لتتابع بحزن: "طول عمره بيشتغل لحد ما جمّد هالدّار، كيف بدّه يدبّر حاله وموعد تقاعده من العمل قرّب؟".
تتحدث إليّ "أم هيثم" وهي تترجم لزوجها بالإشارة، وقد قاطعها كي يخبرني أن قلبه مكسورٌ وحزين على بيته ومقرّ عمله اللذان كفلهما القانون بالحماية، وقصفهما الاحتلال رغم علمه بملكيتهما للمعاقين، كما تقلقه فكرة التواصل لطلب المساعدة والتعويض ما بعد العدوان، لا سيما أن ولديه من الصم أيضًا، متمنيًا أن تكون عملية إعادة الإعمار سريعة.
وعبّرَ هاشم عن خوفه من ممارسة تفاصيل يومه المعتادة، لافتًا إلى أن التّشنج هو تصرّفه الوحيد أمام مشاهد القصف، وهاجس احتمالية الموت، وخطر الإصابة المنزوع من احتمالية النجاة، والقدرة على المناشدة في أيّ قصفٍ أمام إعاقته السمعية، وهو ذات الشعور الذي تشاطره إياه بناته "وعد" و"حكمت" و"نداء" اللواتي اقتبسنَ من والدهن الملامح وغياب القدرة على السمع كبقية أفراد عائلته التي تستدل على القصف عبر الإحساس باهتزازات في البطن، أو عبر البحث برصد مكان اشتعال النيران عبر نافذة المنزل.
لا تستطيع "أم هيثم" أن تكتفي بصرخة إنذارٍ للهروب كبقية الأسر، ولكنها مضطرة للمسِ كلّ فرد من أسرتها على اختلاف أماكن تواجدهم بين مكونات المنزل، علّها تمكنّه من النجاة في ظل غياب القدرة على السمع
ولعلّ الصعوبة التي تواجهها "أم هيثم" مع كل قصفٍ قريب هي عملية إخلاء أبنائها، في وقت يقتضي اقتضاب التحذير بإشارة التنويه لدنو الموت، فهي لا تستطيع أن تكتفي بصرخة إنذارٍ للهروب كبقية الأسر، ولكنها مضطرة للمسِ كلّ فرد من أسرتها على اختلاف أماكن تواجدهم بين مكونات المنزل، علّها تمكنّه من النجاة في ظل غياب القدرة على السمع، والتي تترجمها حركة رؤوسهم التائهة؛ تعبيرًا عن مدى ارتباكهم المضاعف؛ لانعدام معرفتهم بقبلة الطريق خلال تتبعهم لوالدتهم التي تحاول تجنيبهم الأذى، فلا تخبرهم بالوجهة إلا بعدما تشعر بالأمان النسبي، وفي هذا تقول "أم هيثم": "فش وقت اشرح شو اللي بيصير عند الهروب".
قارب النجاة
تتخلّص "أم هيثم" من ملامح بأس روايتها وتضحك من قلبها المهموم لتقول: "أحلى شيء كنّا لما نسمع صوت القصف ونضع أيدينا على رأسنا، يعملوا زيّنا".
يُخبرني هاشم بصعوبة الأمر وقسوته لو لم تكن زوجته الناطقة بينهم والتي تقاسمت معهم التعب والأمل، وأرشدتهم في عملية الإخلاء وجاورتهم في صلاة الجماعة، كما شاركتهم تجارب اختراع الطعام في ظلّ شحّ المكونات.
يُشير هاشم إلى زوجته التي يعتبرها جسر الخلاص من وحل العدوان، ويقول إنه لولا إرشادها، لأصابتهم شظايا الموت وخطر الإصابة بعد الجهل بالأحداث
يُشير هاشم إلى زوجته التي يعتبرها جسر الخلاص من وحل العدوان، ليُخبرني أنه لولا إرشاد الناطقين للصمّ؛ لأصابتهم شظايا الموت وخطر الإصابة بعد الجهل بالأحداث، موضحًا أنه كان يتابع مجريات الأحداث من خلال ترجمة "أم هيثم" للأخبار التي تستمع لها عبر راديو الهاتف النقال، وأنه لا يخرج للشارع إلا برفقتها لينجو معها نحو ثلاث مرات من موتٍ محتم، شهدَا فيه على سقوط صواريخ الاستطلاع من أمامه وخلفه؛ لتكون "أم هيثم" دليله للنجاة بعدما أصابه الارتباك، وتشوّشت وجهته للهروب.
اشتدّت قسوة العدوان على عائلة غزال خلال فترة المجاعة التي ضربت شمال قطاع غزة، حيث اضطرت العائلة لعجن أكل الدواب، وتناول حشائش الأراضي المفتوحة، وفي ذلك تقول "أم هيثم": "مع الجوع كنّا نأكل أي شيء نلاقيه في الأرض المقابلة لبيتنا".
وأمام شبح المجاعة، كثيرًا ما كان ينوي هاشم الذهاب برفقة أبنائه إلى دوار الكويت -مركز وصول قوافل المساعدات- أمام شعورهم بالإهانة خلال رحلة البحث عن الدقيق في مراكز وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، لكن إعاقتهم السمعية كانت شبحًا أقوى أرغمهم على الامتناع عن القيام بذلك أمام خطر الاستهداف والاستغاثة المنزوعة من الصوت.
"لحيتي صارت بيضاء" هكذا كانت إجابة هاشم الذي ابتسم ابتسامة محفوفة بالكبت حين سألته عن أصعب شيء قابله خلال العدوان، الأمر الذي دفعني لمباغتته بسؤالي المازح: "يعني كبرت 20 سنة مع الحرب؟!"، فانتفض بغرابةٍ ورفع يديه وهو يقول: "أكثر من 60 سنة كبّرتني الحرب، كما أفقدتني 20 شخصًا من أصدقائي الصم وآخرين ممن كانوا سندًا لي في الوصول والنجاح قبل العدوان".
قاطعته زوجته "أم هيثم" لتخبرني أن هاشم بات يصطحب حقيبة ظهرٍ خاصة حين يذهب للسوق معي لجلب بعض الخضار للمنزل، وهنا اشتكى هاشم ما ألمّ به من الألم: "أشعر وكأن شيئًا يذبح جسدي من شده التعب، لقد أعياني ألم الظهر، كما كُسر إصبعي ولم أستطع العلاج؛ لصعوبة شرح حالتي الصحية وغياب المستشفيات".
سبعةُ أشهرٍ من الإرهاق الجسدي والانهيار النفسي بات فيها هاشم حبيسًا قهريًا للمنزل بفعل مخاوف العدوان، الأمر الذي دفعه للاهتمام بحديقة منزله التي باتت ملاذه للهروب من مرارة الواقع، وسبيلًا لتغيير نفسيته المكبوتة من هول ما حدث، يمضي وقته كما القدامى على حدّ وصفه، ينكشُ الأرض بلا ماء ولا كهرباء، ويبحث عن الطعام لينتهي به الأمر بالارتماء على سريره من التعب ليفرح بـ 10 دقائق من النوم يسترقها تحت سطوة النعاس من ليله الذي لا يسكنه سوى الأرق والكثير من الأفكار المضطربة.
انقلبت حياة هاشم وأسرته، فبات يتحمّل مسؤولية أعمال البيت، يمارس الزراعة وهو الذي لم يحمل فأسًا في حياته، يشارك في إشعال النار وصنع خبز الصاج، ينظمُ آلية تناول الطعام ويشرفُ على ترشيد استهلاك المياه، يرافقُ ابنته وشبيهته نداء (33 عامًا) خلال رحلات جلب الماء والحطب بدلًا من مرافقته إيّاها للعمل، وهي التي لم أعهدُها إلا تحمل عدسة التصوير وتركض بها من قاعةٍ إلى أخرى؛ لتوّثّق الدورات التدريبية المنعقدة في جمعية "أطفالنا للصم" منذ 14 عامًا لتبدع بعدها في تنقية الصور وابتكار التصاميم للإعلان عن دورات جديدة.
موقد المحبة
بذات الروح المنطلقة تنقّلت نداء رفقة عائلتها بين العمارات السكنية التي نزحت إليها لأكثر من خمس مرّات تحت ضغط الأحزمة النارية، وهو ما جعلها محبوبة بين النازحين للحد الذي يشعرون فيه بالقرب وعمق الفهم رغم اختلاف لغة التواصل، لا سيما وأن نداء تُجيد قراءة الشفاه بنباهةٍ كما تتمتّع بالذكاء الاجتماعي.
تتجمّع نداء مع النازحين رفقة أختها حكمت وابنتها "سوار" الوحيدة الناطقة التي توّلت زمام الترجمة بوساطة لطيفة بين أمها وخالتها والأصدقاء الجدد الذين تعرفتا عليهم بتخصصاتهم المختلفة، لتُمسي علاقتهم الجديدة ضربٌ من الإيجابية في حرب الإبادة الشنيعة بعدما بات موقد النار الراكد بين سلالم درج البناية السكنية، تجمّعًا للأُنس ومزارًا "لشاي نداء" الذي اشتهرت به للحدّ الذي صار يقصدها المارون ليطلبوه بلطف "بدنا من شايات نداء الزاكيات".
وهنا سألتُ نداء عن المزيد من الإيجابيات لتُخبرني بإشارةٍ جدّية مغلفة بالسخرية بأن الحرب أهدتها مهنًا جديدة، كنقل المياه وجمع الحطب، كما أضحت خبيرةً في إشعال النار وفنانةً في عجن طعام الدواب، عدا عن صُنعها "للقطايف" غير المُحلّى سوى بسكر التجربة التي سلكتها لتُذهبَ بها علقم مرارة ما تمر به.
انخرطت أختها "حكمت" بمداعبة الشاكي في حديثنا لتقول: "بتعرفي نداء قبل الحرب ما بتعرف وجهة المطبخ، بس الحرب أعطتها دورة تدريبية من 7 أشهر في مجال الطهي، قبل كانت فقط بعملها"، وهنا عادت نداء لحوارنا لتبشّرني بعودتها منذ فترة وجيزة للعمل الذي ترى أنّ مهامه أسهل من شقاء مسؤولية الأعمال المنزلية.
ولكن هل حقًا أعباء العمل أهونُ من مسؤولية المنزل في ظل العدوان؟! سألتُ نداء باستهجان عن معاناة العاملين في الميدان؛ لتردّ باتساع إدراكها للغاية من الاستفسار: "الصعب في العمل هذه المرة هو غياب المواصلات وقطعي لمسافات طويلة تحت حرارة الشمس الحارقة"، هذا بالإضافة لزحمة الطرقات المعبّدة بركام المنازل، والغارقة بمياه الصرف الصحي، عدا عن مرافقة الخوف لنداء من احتمالية الاستهداف أثناء تنقلها بين الشوارع.
حديث جلستنا التي كان يغشاها اللطف والتعاون لم ينقطع عنه صوت طائرات الاستطلاع الذي فتكَ برأسي والسامعين لكنه لم يتمكّن من فتكِ إرادتي على إنهاء الجلسة بتمنّي السلامة الجماعية، ودعائي لهاشم بالعوض الكبير، ونسيان اليأس، وأن يرسم منجرة أحلامه التي كان يُخطط لافتتاحها بعد التقاعد، ثمّ وإني أخبرته مازحةً بأني سأترك له تصميم سرير غرفتي ومكوناتها الجديدة بعد إعادة إعمار بيتنا المهدّم؛ لتكون شاهدًا على إتقان عمل هاشم، وصلابة جأشه في صناعة مستقبلٍ باهرٍ دون الانحناء لمحاولات إفساد قوات الاحتلال الإسرائيلي لبهاء الحاضر والماضي.