10-أغسطس-2017

الغابة السوداء في جنوب غرب ألمانيا. صورة: عبيدة جمال

كوب من الشاي يحتسيه فوق الثلوج؛ أو وسط الغابات أو على سفح جبل أو بجانب بحيرة تسبح فيها الأوزات؛ يا لها من لحظاتٍ خرافية يعيشها ابن مدينة حيفا "عُبيدة جمال" كلما طاف جنةً من جنان الأرض. 

أيقنتُ كم أنا صغير في ليلة الشفق القطبي، ودون العزيمة لم أكن لأصل لمبتغاي

لم يتجاوز المصور الفلسطينيّ عبيدة جمال (26 ربيعًا) لكنّه أوتي من الحكمة حين آمن أنّ المرء إذا ما ارتضى بالـ "مضمون" فقد حكم على نفسه بالنذر اليسير من كل شيء؛ في حين أن من يقرر الذهاب نحو "اللامضمون" يفيض إبداعًا ليقدم "الإحسان" لمجتمعه على طريقته.

في الريف التركي

عاش أصعب الأيام وأحلاها في بقاعٍ جابها وحده؛ بدا وكأنّه يتعرف على نفسه للمرة الأولى؛ وُضع في اختبارات ما كانت في الحسبان؛ وانطلق نحو آفاقٍ رحبة لعالمٍ آخر؛ هذا العَالم الذي لم يتشرف الغالبية بمعرفته بعد؛ هو محور حديث "ألترا فلسطين" معه.

حقيقة الحياة

انجذب عبيدة نحو التصوير الفوتوغرافي بعد انتهاء المرحلة الثانوية؛ وحين اقتنى أول كاميرا كانت صغيرة جدًا وبسيطة؛ لم يعرف أنها الخطوة الأولى وأن حبه "للقمرة" يكبر يومًا بعد يوم؛ لتشتد العلاقة بينهما بمرور الوقت؛ في البداية أحبَّ تصوير كل ما يراه أمامه مهما بدا عاديًا؛ متلقيًا كل الدعم من عائلته لا سيما من أمه.

تخرج من كلية الرياضة؛ لكن عقله وفؤاده اتجها نحو تصوير الطبيعة أو ما يعرف بـــ الـ (لاند سكيب)؛ وعن السبب في اندفاعه نحو هواية هي بحد ذاتها مغامرة؛ يقول: "أحب كثيرًا البعد عن فوضى البشر؛ وأميل نحو الطبيعة والهدوء؛ لا سيما وقت الشروق والغروب والليل؛ وحسبي أني أعيش حالةً من السلام مع نفسي".

سويسرا، ولحظات لا تُعوّض

اقرأ/ي أيضًا: جولة بالصور في باحات الأقصى

يحظى عبيدة بسمات شخصية أبرزها أنّه يعرف ما يريده؛ روحه وثَّابة وخالية من عقدة الكِبر في الوقت نفسه؛ إنّها روح الصدق التي تبدو لكل من يتحدث معه؛ سألته (ماذا كشف لك هذا النوع من التصوير؟)؛ فقال: "مع الطبيعة تبينت لي حقيقة الحياة؛ الناس يركضون خلف التفاهات؛ غارقون في الدنيا ومشاكلها؛ ولا يعلمون أنّ للدنيا وجه ساحر يستحق منّا العناء كي نراه؛ مع الطبيعة فهمت أن الإحباطات وإن توالت لا بد وأن تفسح الطريق للنجاح؛ إنها تضعنا في مواجهة مع التحديات والتي من الوارد أن نُمنى فيها بالخسارة".

عدّة الشغل جاهزة..

يبتسم وهو يتحدث عن مكانة فلسطين في ذاكرة عدسته: "بلادنا جميلة جدًا حتى أنني لا يمكنني مقارنتها بدول أخرى؛ لا أدعي أنها أجمل من أوروبا التي تتمتع بشلالاتها وبحيراتها وجبالها الشاهقة؛ لكن فلسطين تميّزها طبيعتها المختلفة وتنوّع مناخاتها؛ في الجنوب لدينا صحراء؛ وفي الشمال تكثر الشلالات والوديان؛ وهذا التنوع لا تحظى به بلدان أخرى".

اقرأ/ي أيضًا: مسار إبراهيم.. كل ما تحتاجه لعطلة مميزة!

باحترافية عالية صوَّر درب التبانة من صحراء النقب ليلًا؛ ارتعدت فرائصه فيها؛ ومنها كانت الخطوة الأولى نحو مشوارٍ بآلاف الأميال؛ فلم يتوقف عند جمال فلسطين البِكر؛ بل انطلق نحو طريق أكثر وعورة و سِحرًاـ ليتذوق بالترحال متعة الاكتشاف على أصولها.

ويرى أنّ من يلحق بركاب المصورين المغامرين؛ عليه التحلي بالجرأة؛ وتجاهل تعليقات الآخرين التي تنال من الهمة وفي ذلك حدَّث ولا حرج؛ موضحًا مقصده: "صادفتُ كثيرين ممن همسوا في أذني: (شو بدك بهالشغلة؛ ما بتجيب مصاري؛ وشو إنك رايق!)؛ وأنا لا التفت لكلامهم؛ ما تعلمته أن الرجل حين يضع هدفًا نصب عينيه؛ فإنه لا يفارق ظله؛ أمّا البعض فيصعب عليهم أن يروا هدفهم؛ بسبب اعتيادهم على الروتين والحياة المضمونة التي بفضلها يعيشون حياة عادية؛ فيما الأهداف الجميلة الكبيرة تتواجد حقًا خارج نطاق الراحة".

مجرة درب التبانة من صحراء فلسطين

نحو القطب الشمالي

وصلنا إلى النقطة الأكثر إثارة في قصة ضيفنا الحائز على جوائز عدة؛ من بينها جائزة ناشيونال جيوغرافيك الدولية؛ إنها حكاية عزيزة على قلبه؛ تختصرها صورة الشفق القطبي وانعكاسها على البحيرة التي التقطها في شهر آذار/ مارس من عام 2016.

يلتهب حماسه وكأنّه يرى ذلك المشهد الساحر للتوّ، فيقول: "هي أكبر مغامرة في حياتي؛ حين قررت الذهاب الى القطب الشمالي؛ تحديدًا لشمال النرويج برفقة صديق كويتي اسمه يوسف؛ وصلنا مطار أوسلو مساء؛ ثم انطلقنا بالسيارة وفحصنا حالة الطقس؛ ومع أننا أجرينا له فحصًا العديد من المرات، إلا أننا فوجئنا بعاصفة ثلجية ستضرب القطب الشمالي لأربعة أيام؛ ما يعني أنه لن يتسنى لنا رؤية الشفق القطبي؛ حيث ستصل الجزء الشمالي من النرويج بعد يومين من وصولنا".

تعقيدات شتى على مدار الرحلة مر بها الرفيقان؛ والتفاصيل التالية المشبعة بالمثابرة تزخر بالتشويق: "لم يكن بوسعنا إرجاع السيارة؛ وجدنا أنفسنا مجبرين للتوجه نحو القطب الشمالي على أن نقطع مسافة 1900 كيلومتر في يوم واحد وبضع ساعات؛ كنت مضطرًا للسياقة لـ28 ساعة دون توقف.. كان جسمي منهك تمامًا، والوصول "للشمال" في يوم واحد ضربٌ من المستحيل؛ بعد ذلك دخلنا في طرق مظلمة لا نعرف عنها شيئًا؛ معتمدين على برنامج تحديد المواقع "GPS"، إلا أن وصلنا الشمال القطبيّ في الحادية عشر ليلًا، وإذ بالمنطقة التي عزمنا التصوير فيها قد اجتاحتها العاصفة.

المشاعر تتزاحم

ابتسامة عبيدة كانت مختلفة هذه المرة؛ والسبب هذا المقطع من تلك الليلة؛ يتابع حديثه: "ارتأينا أن نتوغل إلى أقاصي الشمال؛ حيث العاصفة لم تصل بعد؛ وفي زاويةٍ معتمة جدًا بجانب بحيرة انتظرنا وانتظرنا وانتظرنا؛ كُنّا نعلم أن الشفق القطبي لا يظهر كل ليلة؛ وأملنا ينعقد على فرصة وحيدة لتصويره فيما لو قُدّر لنا ذلك، في تلك الليلة؛ فالعاصفة على وشك الوصول".

بدأت الأضواء الخضراء (الأورورا) بالتراقص؛ وأخذت رويدًا رويدًا تسطع أكثر؛ كانت ألوانها الساحرة تزداد تألقًا إلى درجة أن أُعلن في نشرات الأخبار؛ أنّها من أشد ليالي السنة التي يظهر فيها الشفق القطبيّ بهذا الجمال والوضوح.

أفضل صورة للشفق القطبي

اقرأ/ي أيضًا: مار سابا.. قصة دير مُحرَّم على النساء

لأول مرة يشاهد ظاهرة فريدة بالعين المجردة؛ ومن شدة ذهوله لم يقم بتصويره مباشرة؛ ترك الكاميرا واستلقى على الثلج؛ وأخذ يحدّق في السماء؛ عاش مشاعر متناقضة، قشعريرة، خوف، فرحة، دهشة، رهبة، وحُبّ، تزاحمت كلّ هذه المشاعر في لحظة وحدة لا يمكن وصف هولها؛ كما يقول.

تنهيدة طويلة وكأنّه سيدخل بها موسوعة "غينتس" حين قال: "هذيك اللحظة بتكتشف فيها قديش أنت صغير قدام هالخلق العظيم".

وبتقنية الـ (تايم لابس) وثقَّ مشهد الشفق البديع يعانق البحيرة؛ ولأجل الحصول على لقطة مُثلى وقف في المياه الثلجية "والسقعة بتقرص قرص" وفق تعبيره العفوي.

وبعد انتهاء "ليلة من العمر"؛ أخذت الثلوج تهطل؛ ووصلت درجة الحرارة لــ19 دون الصّفر؛ أمضيا عدة ساعات ليصلا إلى الكوخ في ساعات الصباح؛ وغطَّا في سباتٍ عميق حتى اليوم التالي.

"برقة" محترمة

إن لم يكن المصوّر قادر على تحمّل التعب؛ والظروف الصعبة فإن العمل المبدع سيبقى مجرد حلم؛ وهنا يتذكر شيئًا: "ذات رحلة تخييم حدث وأن بقيت ثلاثة أيام كاملة دون طعام؛ كنت فقط أشرب المياه من الوديان وكم هي نظيفة؛ كنت من شدة البرد لا أشعر بأطرافي؛ مع أني أرتدي ملابس ثقيلة؛ لكن الظروف الجوية أشد قساوةً؛ ولم أشعر قط بالاستياء؛ برأييَّ أن السفر خلق لمن يرغبون الشعور بالتميز؛ بخلاف السياحة".

لحظة الجنون مع الفرح لا تعوض؛ ولا يفوته أن يشاركنا بهذا الموقف: "في ليلةٍ ماطرة أردت أن التقط صورة لجامع سلطان أحمد مع البرق؛ البرق في السماء كثير لكن أردت اصطياد "برقة" خلف المسجد؛ وبعد أكثر من 60 صورة جاءت "البرقة" الملائمة؛ في لحظة لا توصف".

البرق على جامع السلطان أحمد

اقرأ/ي أيضًا: زواج فلسطينيّات وإنجابُهن.. الماء وسيطًا!

وبلهجة عامية قريبة من القلب قصَّ علينا الموقف: "الدنيا مطر وبرق والدنيا قايمة قاعدة وفش حدا بالشوارع غير بياع الشاي اللي واقف بساحات الجامع؛ وأنا قاعد بصوّر لعل وعسى تيجي برقة محترمة فوق الجامع؛ ولما أجت اللحظة المنتظرة من الفرحة صرخت وصرت أنط ومسكت بياع الشاي ولا بعرفه ولا بعرفني".

عبيدة جمال الذي يقضي الآن رحلة تخييم في تركيا؛ بعض أسفاره تمولها شركات معينة لعرض منتج لها بفيديو أو بصورة؛ وبعضها الآخر تكون ورشات ودورات تصوير في الخارج يقوم بها؛ وبالطبع لا يبخل أن ينفق من جيبه الخاص على جزء منها؛ كما لا يدخر جهدًا في تعليم التصوير الفوتوغرافي للهواة الشباب.

ولأن الوصول إلى العالمية حلمٌ كبير بالنسبة له؛ يحرص عبيدة على متابعة كبار المصورين في العالم؛ أمّا عمّا يعمل عليه هذه الفترة بجد: "مشواري الابداعي القادم هو تصوير تايم لابس- أي التصوير الضوئي أو مرور الزمن-  حول العالم؛ أعكف عليه منذ عامين؛ وآمل أن ينتهي مطلع العام المقبل؛ نعم هو صعب ومتعب ويتطلب أفكارًا خلّاقة؛ لكن أتوقع أنه سيثير ضجة".

يحلم أن تسوقه طموحاته الى أماكن لم يتخيّلها يومًا؛ "نعم قد ينهك هذا جسدي من فِرط التعب؛ لكنها ستجعلني أسعد انسان على الكرة الأرضية حين تُجهز عدستي على لحظات فريدة".. هو محقُ تمامًا فالطبيعة بالنسبة له "سُقيا قلب".

في المسجد الأقصى

 


اقرأ/ي أيضًا:

صور | حجة وسنيريا.. حضارات يُهلكها النسيان

"البنانير" أو "القلول" لعبة طفولة لا تُنسى

واد صوانيت: سحرُ النّرجس وصدى ابتهالات الرّهبان