في البلاد المنكوبة أنت محظوظٌ إذا استيقظت وتمكنت من رؤية نفسك في المرآة - بصراحة لست محظوظًا تمامًا لأسباب حتمًا تعرفها - ولكنك لا تعلم كم الأشخاص الذين فقدوا انعكاساتهم في المرايا هذا الصباح، وهذه مفاجأة مخيفة. يستيقظ الواحد منهم بكسله المعتاد ليبدأ يومه الرتيب ذاته، يريد أن يغسل وجهه وأسنانه فيفاجأ أنه اختفى! المرايا لا تعترف بوجوده والناس لا تسمع صوته، وكلما حاول أن يمسك أحدهم ويهزه ليلتفت إليه يفلت منه ويمر من خلاله.
يتأقلم الميت مع الاختفاء، يعتاد أن يمر الناس بجواره ومن خلاله دون أن ينتبهوا له، ورغم الاعتياد على أشياء كثيرة وأوجاع متعددة، إلا أن ألم فقدان القدرة على العناق؛ ألمٌ لا ينال منه الاعتياد ولا يخفف من وجعه التكرار. الميت لا يستطيع أن يحضن أحدًا، ولك أن تتخيل الكثير من المشاهد الحزينة لمحاولاتٍ فاشلةٍ لعناق اثنين انتهت بعويل أحدهما، بينما لا يسمع الآخر أي شيء. إنها الوحدة، السبب الوحيد الذي يستحق الموت أن يكون مخيفًا لأجله.
السياسة هذا الوحش الذي يأكلنا ويبصقنا فنصفق له ثم يأكلنا ويبصقنا من جديد ونصفق له ونعيد ونعيد.
لا أعلم إذا كانت حياة الميت تنعكس على موته. لا أعلم إذا كانت البلاد التي يموت فيها تؤثر على نفسية الميت ومشاعره. هل يعاني الميت الأوروبي مما يعانيه الميت العربي؟ ربما يعاني أكثر لأنه معتاد على العناق بشكل يومي. عربيًا الناس لا تعانق بعضها بذات النسبة التي قد تراها في أوروبا، تمنعهم أسبابُ كثيرة، دينيًا الرجال والنساء الغرباء لا يتعانقون، اجتماعيًا يفضل الناس السلام باليد وتقبيل الخدين إذا كانت هناك مناسبة تستدعي ذلك، سياسيًا العربي لا يعانق غريمه السياسي حتى لو كان هذا الغريم يبكي ابنه الذي تحول إلى جثة. نعم لدينا لغة حادة وغير متسامحة عندما يتعلق الأمر بالسياسة. السياسة هذا الوحش الذي يأكلنا ويبصقنا فنصفق له ثم يأكلنا ويبصقنا من جديد ونصفق له ونعيد ونعيد.
اقرأ/ي أيضًا: فيما وراء التضامن.. ما نفعل وما يفعلون!
بدأت الكراهية العربية تتحول إلى خبر يومي في نشرات الأخبار، حدث هذا عندما فتّحت الثورات العربية جراحنا الداخلية، نحن الذين طالما شغلنا أنفسنا وأُشغلنا، تغافلنا وغُفلنا بفكرة العدو الخارجي الذي يمكننا جميعًا الاتفاق على شتمه بحدة وكراهيته بوضوح. اكتشفنا أننا أمام جيوش من الأعداء وكلهم يستخدمون بعضهم للنيل منا: عدو خارجي، عدو داخلي، جنود العدو الداخلي وهؤلاء الأخيرين هم أقسى الأعداء ولنا معهم أصعب الذكريات، هؤلاء الذين تتقاطع وجوهنا معهم أمام طوابير شراء الخبز وتتصادم أكتافنا في الشوارع المزدحمة صباحًا. لم نتخيل يومًا أن السياسة ستحول دون أن يبكوا علينا إذ نحن تحولنا إلى جثث يومًا ما في نشرة أخبار.. "أنا الكتف الذي اصطدم بكتفك صباح الاثنين الماضي، لماذا لا تتذكرني؟"
تفاصيل الموت الأليمة حتى لو كانت احتمالاً لم تعد كافية لضمان عدم البصق على الجثة بالشماتة أو بالنكتة
علينا أن نتعلم الدرس، وعلى سقف الأمل أن يكون منخفضًا هذه المرة بعد أن خبرنا ما خبرنا من تهليلٍ وتبريرٍ ومديحٍ من بعض الشعب للمجازر والاعتقالات والانتهاكات التي يرتكبها رؤساء وملوك العالم العربي بحق البعض الآخر من الشعب. (يااه هذه جملة طويلة معقدة لا تفسير يبسطها، ولا أي نوع من البكاء قادرٌ على إصلاحها!) كان علينا أن نعرف أن من استطاع الابتهاج بقتل المئات في رابعة، وتبرير اعتقال المئات في سجون حماس والسلطة، ومديح قصف اآلاف في حلب وحمص، حتما سيحول خبر اختطاف صحفي وقتله إلى نكتة يُصفي من خلالها حنقه على وسيلة إعلامية أو نظام سياسي. تفاصيل الموت الأليمة حتى لو كانت احتمالاً لم تعد كافية لضمان عدم البصق على الجثة بالشماتة أو بالنكتة. أي فكرة وطنية هذه التي تحول دون أن يحضن الناس ذوي الضحايا ويتعاطفوا معهم! أي وطن يسعى هؤلاء لبنائه بينما يسألون عن الانتماء السياسي للميت قبل أن يترحموا عليه؟
هل تعاني أزمة عاطفية عند كل نشرة أخبار؟ هل تأخذ النشرة بشكل شخصي؟ أنا أفعل. أتخيل نفسي الجثة التي رأيتها في التلفاز بالأمس ثم بدلت القناة لأنني مرهقة من مشاهد الموت، أفكر أنني سأدفع ثمن أنانيتي هذه يومًا ما بعد الموت، سأتحول إلى جثة سيبكي علي بعضٌ من أهلي، وبعضٌ من أصدقائي وسيبدل الكثيرون القناة لأنهم متعبون من مشاهد الموت. ولأن العالم الذي لا يمنحك قلبًا للبكاء أو العناق، هو ذاته الذي يفقد فيه الموتى قدرتهم على العناق، فإننا سنعيش بعد الموت وحيدين وسيفعل الكثيرون مثلنا. وبينما ستكون لكل بلد أسبابه الخاصة في وحدة موتاه، عربيًا حتمًا ستظل السياسة هذا الوحش الكبير قائمًا بيننا حتى بعد أن تحولنا إلى جثث.
اقرأ/ي أيضًا:
هل تقرأ الحرب على أطفالك قبل النوم؟