تبقى جريمة قتل الصحفي خاشقجي من أشنع الجرائم التي ارتُكبت بحق الصحفيين في الأعوام القليلة الأخيرة، ولكنّها ليست الأكثر شناعة وحسب، بل أكثر الجرائم شناعة وحضورًا في آن. لذلك أسباب كثيرة، أوّلها وأهمُّها، دور الاستخبارات التركية في قضية خاشقجي والطريقة التي أدارت عبرها هذا الملف بكثير من الحذر والمراوغة بغية حصار المملكة السعودية وإبقاء القضية حاضرة في النقاشات الدولية وشاشات التلفاز، وذلك عبر التسريبات المتواصلة والصمت الجزئي في الموقف الرسمي التركي خشية تحوير الأزمة إلى أزمة دبلوماسية بين البلدين وطيّ صفحة قضية خاشقجي باعتبارها مقدّمة أزمة دبلوماسية لا جريمة بشعة بحق صحفي يجب الوقوف عندها.
ربما يحق لولي العهد السعودي ابن سلمان، المتهم الأوّل بالضلوع بجريمة قتل خاشقجي، أن يستغرب انقلاب الغرب عليه وسلاطة لسانه المهدّد بحظر بيع السلاح وخطوات دبلوماسية أخرى بحق المملكة والضالعين بمقتل خاشقجي. ذلك أن ابن سلمان على عهده بالغرب، لا يكترث بحقوق الإنسان السعودي أو اليمني، أو حتى الصحفيين منهم، ذلك أنّه لا يزال في شغل متواصل من الاعتقال والقتل والإخفاء لنشطاء حقوق إنسان سعوديين ويمنيين على حد السواء، ولدعاة سعوديين ورجال أعمال وأمراء احتجزهم على مرأى من العالم كلّه ولم يحرّك أحد ساكنًا. أيضًا فهو في شغل متواصل منذ سنوات في اليمن قتلاً وتدميرًا هو أكثر بشاعة وأشدُّ إجرامًا من جريمة قتل الصحفيّ خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول، ومع ذلك، لم يحرّك الغرب ساكنًا إزاء طغيانه وبطشه المتواصل منذ سنوات حتى وقعت الواقعة في اسطنبول.
علاقة خاشقجي بساسة غربيين وقناع قرار، وإدارة الاستخبارات التركية لملف اغتياله، من أهم الأسباب التي دفعت الغرب لاتخاذ موقف متشدد إزاء ابن سلمان والمملكة
هنالك العديد من الأسباب التي دفعت بالغرب وحكوماته دفعًا إلى اتخاذ موقف متشدد إزاء ابن سلمان والمملكة السعودية، أهمُّها هو دور الاستخبارات التركية وإدارتها الذكية لملف القضية، وليس أقلُّها أهميّة خاشقجي نفسه. فهو يكتب بالإنجليزية في كبرى الصحف الأمريكية وهي الواشنطن بوست، وهو أيضًا، قريب من الكثير من الساسة الغربيين وصنّاع القرار والرأي في عواصم الغرب، وهو أخيرًا مواطن قتل في قنصلية بلاده في أغبى عملية اغتيال سياسي في تاريخ الاغتيالات السياسية التي تصادف أن تكون كذلك من أشدّها بشاعة وشناعة.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا قال النشطاء عن هيئة خاشقجي في حضرة الملك ووالده؟
والحجة الغربية على ابن سلمان الأولى والأخيرة، والتي يعبّر عنها تصريح فيديريكا موغيريني وهي مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبيّ أنّ مقتل "صحفيّ واحد هو اعتداء على حرية التعبير وهجوم ضدنا جميعًا"، بالإضافة إلى أنّه تهديد لشكل الحياة الغربيّة. وابن سلمان لم يدرك أنّه إن كان عليه أن يرتكب أغبى عملية اغتيال في التاريخ لأجل بثّ الرعب في قلوب معارضيه في العالم كلّه، كان عليه أن يرتكبها في الخفاء ولن يحاسبه أحدٌ عليها. ربّما تقارير مزعجة من هنا أو هناك غربيّة وشرقيّة، لكن لن يكون أكثر من ذلك. فمن المفارقات أن تجد خبر مقتل الصحفيّ خاشقجي يبث باللون الأحمر طوال أسابيع في شاشة الجزيرة، ومع ذلك ترى خبرًا في شريط الأخبار، يأتي في النهاية عادة منذ سنوات طويلة، هو خبر اعتقال الصحفي محمود حسين وتجديد حبسه لمدّة 45 يومًا للمرّة 17 دون محاكمة أو أيّ تهمة في مصر التي تبتلع أبناءها في الظلمات ليل نهار ولديها أكبر عدد من المختفين قسرًا ومن المحاكمات غير القانونية وأحكام الأعدام والإخفاءات القسريّة في العالم كلّه.
مع ذلك، ليس هنالك أيّ مواقف غربيّة سوى بعض التقارير المزعجة هنا وهناك، عن حالة حقوق الإنسان والصحفيين أيضًا في مصر، رغم أنّه لم يبق صحفي في مصر إن لم يكن في صفّ النظام كان في سجنه.
هذا ما يُحيلنا إلى استنتاج أوّلي حول الغرب وحول قضيّة الصحفيّ خاشقجي. وهو أنّ الموقف الغربي تجاه القضية لن يكون سابقة في تاريخ بطش الدولة واستبدادها في الشرق الأوسط بحقّ مواطنيها وصحفييها، بل هو موقف استثنائيّ لن يخلّف وراءه إلّا حكومة استبدادية سعوديّة وشرق أوسطيّة أشدُّ بطشًا وأكثر مهارة وتخفّيًا في اغتيال معارضيها.
موقف الغرب تجاه قضية خاشقجي لن يكون سابقة في تاريخ بطش الدولة واستبدادها في الشرق الأوسط بحق مواطنيها وصحفييها، بل هو استثنائي
يمعن الروس في قتل وتهجير الشعب السوري منذ 8 سنوات ولا يُسمَعُ من زعماء الغرب إلّا تحذيرات من استخدام السلاح الكيماوي الذي استخدم عشرات المرّات. ومع ذلك، إنّ جوهر خروج الشعب السوريّ إلى الشوارع كان إصراره على ممارسة حقّه الطبيعيّ في "حريّة التعبير". ووراء سجون الاحتلال آلاف الفلسطينيين، منهم الصحافيون، والمدوّنون على "فيسبوك" أو مواقع التواصل الاجتماعيّ، ولا يُسمع من الغرب شيئًا حول "حرية التعبير". يقتل الاحتلال الصحفيين الفلسطينيين على شاشات التلفاز ولا يُسمَعُ أيضًا أيُّ شيء من الغرب.
اقرأ/ي أيضًا: صحافي فلسطيني يستقيل من جريدة سعودية
يبقى أن نقول، أنّ على الإنسان أن يكون حيًّا أوّلاً قبل أن يملك حقّ في التعبير عن رأيه. والغرب هو الغرب، ولديه معاييره الخاصّة حول الإنسان متى يكون إنسانًا يستحقُّ الرثاء والغضب من أجله ومتى لا يكون كذلك ويستحقُّ النسيان والتجاهل. لكنّ المشكلة الأساسيّة، تبقى الاتكال الثقافي على الغرب في إدانة البطش والاستبداد العربيّ والشرقي والذهاب بالظنّ أنّ قضية خاشقجي ستكون سابقة تؤسِّسُ لشكل جديد من أشكال تعامل الدولة العربية مع مواطنيها وصحافييها أو حتى التعويل على ذلك.
الأمر الآخر والأخير، هو الموقف الرسمي العربي المتماهي مع الفعل الإجرامي السعودي والموقف الشعبي. لا يمكن التعويل على الموقف الرسمي، ومن يعرف سلوك السلطة الفلسطينية مثلاً مع مواطنيها وصحفييها يدرك أنّ بيان تأييدها للفعل الإجرامي السعودي هو سلوك طبيعي لأنّ من شابه ابن سلمان فما ظلم. كذلك الموقف المصري المؤيد بفجور لا مثيل له للجريمة السعودية والذي يصل حدّ اغتيال خاشقجي مرّتين، مرّة في قتله ومرّة في شخصه بعد موته.
لكن، ماذا عن الموقف الشعبيّ؟ عمّا قريب يذهبون إلى الحج ويعتمرون، سيدرُّون مليارات أخرى تذهب إلى واشنطن ومصانع السلاح الأمريكيّ والفرنسي والبريطاني. عما قريب يصلّون وراء أئمة الحرمين الذين أفتوا بقتل خاشقجي وغيره من المسلمين. لن يقاطع أحد الحج هذا العالم، فلو كانوا سيقاطعونه لأمر كهذا لكان هنالك أعظم منه وطأة على النفوس من قبل، لكنّ أحدًا لن يقاطع الحج وسيصلُّون وراء الإمام الظالم كما في كلّ عام.
اقرأ/ي أيضًا:
هذه الدول العربية تثني على السعودية بعد إقرارها بمقتل خاشقجي
منظمة حقوقية: السلطة وحماس ترتكبان جرائم ضد الانسانية بحق معارضين