24-أكتوبر-2018

إذا كنتَ أبًا، وإذا كنتِ أمًا، فإن قلبك حتمًا يرتعش في كل مرة يبادرك فيها طفلك بالسؤال " لماذا أو كيف؟". ولأن الاختبارات الأصعب هي التي يضعك فيها الأطفال، حيث أنهم وعلى غير ما يتوقع الكثيرون لا يرضون بأي إجابة، ولأنك تعرف هذا فأنت على الأغلب أمام طريقين، الأول أن تنهرهم عن السؤال من أصله بوجهٍ باردٍ غير مرحبٍ بالأسئلة. أما الثاني فيمكنك فيه أن تكون ألين وألطف وأكثر ذكاءً وتُحضر مسبقًا أفضل الإجابات لأسئلتهم المتوقعة: ما لون شعر الله؟ لماذا لا يوجد إلا سرير واحد في غرفتكم رغم أنكم اثنان؟ أين يذهب الموتى؟ متى تنتهي الحرب؟

كل ما تقوله لطفلك هو المادة الأولية التي ستساعده على خلق معاني الأشياء، مشاعره تجاهها وسلوكه أمامها

كل ما تقوله لطفلك هو المادة الأولية التي ستساعده على خلق معاني الأشياء، مشاعره تجاهها وسلوكه أمامها. قرأتُ وصية أمٍ بريطانية قضت بسرطان الثدي توصي عائلتها وأصدقاءها بأن لا يخبروا طفلتها أن أمها تعيش في السماء، لأنها لا تريد أن تعتقد الطفلة أن أمها فضلت أي مكانٍ آخر على البقاء بجوارها. تقول لطفلتها: أنا لا أنظر إليك من الأعلى لأن قدرتي على الرؤية انتهت، ولكن عندما كنت أرى كنتِ أنتِ أجمل شيءٍ رأته عينايّ.

اقرأ/ي أيضًا: عن التورط السياسي والحب الأمني لله

وكما يبدو عالم الكبار مليئًا بالأسئلة الوجودية المعقدة، فإن عالم الأطفال ليس بعيدًا عن ذلك أبدًا، بل إن عالمهم أوسع لأنه بدون إجابات، فلا تستغبيهم بإجاباتك، ولا تحاول أن تصنع منهم أغبياء. ولأنه ليس بوسعك أن تتنبأ بامتحانك القادم مع طفلك، وأي الأسئلة سيختارها فمه الصغير ليفاجئك بها وأنت تساعده على تبديل ملابسه، فإنك ستُحضر مجموعةً من القصص لتكون إجاباتك عن أسئلته المخيفة، إجاباتٍ  ظريفة، مسلية ومقنعة. ربما قد تبدو الأسئلة التي تتعلق بالله والموت والجنس هي الأصعب، أما أسئلة الحرب فقد تبدو الأخف، فهل هذا صحيح؟

نحن جميعًا في هذه الحرب، مهما حاولنا إغلاق عيون الاطفال عن نشرات الأخبار وحمايتهم من مشاهد الموت، الأطفال في ألفة مخيفة مع الحرب، يعرفونها أكثر مما كنا نتمنى. المعلومات التي كنا نود حمايتهم منها تنتقل إليهم من بابٍ لا يمكن للأهل التحكم بفتحه وإغلاقه، وبدل أن يبادر الأهل بتشكيل المعنى منذ البداية، بات عليهم إعادة صياغة المعاني التي تقدمها نشرات الأخبار وصفحات الإنترنت وأصدقاء المدرسة وملصقات الشوارع. فكيف تشرح لطفلك حكايات القسوة التي يمارسها العدو علينا في الحرب دون أن يحمسه حزنك على ممارسة ذات القسوة عندما يستطيع ذلك؟ كيف تشرح له من هو دون أن تنتقص من الآخرين الذين يختلفون عنه؟ كيف تساعده على موازنة مشاعره بحيث يحب بلاده دون أن يعتاد ممارسة الكراهية مبكرًا؟ وما هي الكمية المناسبة من المشاعر والقصص التي يتحملها كتفاه؟

قبل ما يقارب العامين ألفت الكاتبة الإيرانية غولبرج باشي كتابًا للأطفال بعنوان “P For Palestine”. في الكتاب قامت باشي بتقديم أحرف الأبجدية الإنكليزية بكلمات فلسطينية تعكس قضية البلاد وثقافتها. فجاء في الكتاب مثلاً:

“B” تشير إلى بيت لحم،“G” ترمز لغزة، “M” مفتاح تعبيرًا عن حق العودة، “E” تعني العيد، أما “I” فربطتها الكاتبة بالانتفاضة وعرفتها بـ"كلمة عربية تعني الحصول على حقك سواء كنت صغيرًا أم كبيرًا".

أهم ما قدمه الكتاب للفلسطينيين ليس الضجة التي أثيرت حوله في مدينة نيويورك الأمريكية فقط، بل أنه منح عالم قصص الأطفال الفلسطينية نموذجًا متوازنًا لما يمكن تقديمه للطفل من معرفة وثقافة ومشاعر عن قضيته وبلاده دون المساس بطفولته.

خلال كتابة هذا المقال قرأت عددًا من قصص الأطفال التي تناولت القضية الفلسطينية وقصصًا تناولت الحروب والأطفال بشكل عام، وفي معظمها كان تناول القضية مباشر الأسلوب والأهداف بعيدًا عن الرمزية، فالغرض من القصص بث الأمل بنفوس الأطفال بأن الحرب ستنتهي، أو الحديث عن جمال المدن الفلسطينية المحتلة، أو حث الأطفال على أن يكونوا أقوياء من خلال الثناء على الأبطال الذين صمدوا رغم كل شيء. فهل التناول المباشر هو الانسب للأطفال؟ أم الرمزية كتلك التي كتب فيها زكريا تامر قصصه للأطفال؟

"لماذا سكت النهر"، "خطأ الأجداد"، "أسئلة النهر الغاضب"، نماذج من قصص الكاتب السوري الموجهة للأطفال، وقد تناولت مفاهيم الثورة، والتحرر من العبودية ورفض حكم السيف، ومفاهيم الخير والجمال. القصص مليئة بعبارات التأمل والتفكير فهل تكفي رمزية هذه القصص للإجابة على ما يراه الأطفال في نشرات الأخبار؟ أم أن القصص المباشرة التي تتناول حياتهم في الحروب، أحلامهم ومخاوفهم بشكل مباشر هي الأنسب للإجابة على تسأولاتهم: ما لون شعر الله؟ لماذا لا يوجد إلا سرير واحد في غرفتكم رغم أنكم اثنان؟  أين يذهب الموتى؟ متى تنتهي الحرب؟

"كان النهر في الأيام القديمة قادرًا على الكلام، وكان يحلو له التحدث مع الأطفال الذين يقصدونه ليشربوا من مائه ويغسلوا وجوههم وأيديهم، فيسألهم مازحًا: "هل الأرض تدور حول الشمس أم الشمس تدور حول الأرض؟".‏

(زكريا تامر- لماذا سكت النهر؟)

[[{"fid":"75345","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":435,"width":628,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]


اقرأ/ي أيضًا: 

آدم يعود من فم الموت بقدم واحدة..

كيف سرق الاحتلال ضوء حسان التميمي وأبدله كوابيس؟

قصص قصيرة لتقوية عضلة القلب