يبدو أن مسار إجراء انتخاباتٍ فلسطينيةٍ عامةٍ قد أصبح طي النسيان، ولم يعد يتم التعامل معه كأولوية للخروج من الأزمة التي يعاني منها من المجتمع الفلسطيني على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث ربط موضوع الانتخابات بالموافقة الإسرائيلية على إجرائها في وقت لا تبذل فيه السلطة الفلسطينية أي جهود للضغط على السلطات الإسرائيلية من أجل إجرائها.
صانع القرار آثر البحث عن فرص تحول دون إجراء هذه الانتخابات رغم ما سنجنيه من نتائج إيجابية منها
فرصة إجراء الانتخابات، وبعد موافقة كافة الفصائل عليها، وعلى وجه الخصوص موافقة حركة حماس، كانت ستشكل فرصة تاريخية للبدء في إجراءات إنهاء الإنقسام وإعادة توحيد الضفة وغزة، وفي مواجهة سياسات الاحتلال لتكريس سيطرته على مدينة القدس وضم أراضي الضفة الغربية، وخلق كيان سياسي في قطاع غزة، واعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية وطنية يلتف حولها الشعب الفلسطيني بكافة مجاميعه، إلا أن صانع القرار آثر البحث عن فرص تحول دون إجراء هذه الانتخابات رغم ما سنجنيه من نتائج إيجابية منها.
اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات الفلسطينية
القناعة الراسخة لدى الكثيرين أن السلطة الفلسطينية لا ترغب بإجراء انتخابات عامة، وربط قضية الانتخابات بالقدس لا يتعدى كونه حجة لعدم إجرائها، فكان بالإمكان إعلان الانتخابات واتّباع نفس الآلية التي تم فيها إجراء الانتخابات السابقة دون انتظار الموافقة الإسرائيلية، وأن ننقل للعالم صورًا تبين أن الحكومة الإسرائيلية ترفض إجراء انتخابات في مدينة القدس، وتظهر صور الشرطة الإسرائيلية وهي تقتحم مراكز التسجيل ومراكز الاقتراع وتصادر صناديق الاقتراع وتحطمها، وبذلك يزداد التضامن الشعبي وتصبح مدينة القدس عنوانًا نضاليًا.
لكن الربط بين الانتخابات والقدس استهدف الداخل الفلسطيني بدرجة أكبر من استهدافه الحكومة الإسرائيلية أو المجتمع الدولي، فقد شلت السلطة بهذا الربط فكرة الانتخابات، وأصبح من يدعو إلى إجراء انتخابات يخشى من التعبير عن رأيه خشية وصفه بأنه متنازل عن مدينة القدس، أو متساوق مع صفقة القرن، وهكذا ماتت فكرة الانتخابات.
أصبح من يدعو إلى إجراء انتخابات يخشى من التعبير عن رأيه خشية وصفه بأنه متنازل عن مدينة القدس، أو متساوق مع صفقة القرن، وهكذا ماتت فكرة الانتخابات
أفهم أن في السياسة شيءٌ اسمه القوة السلبية، وهي تعني الامتناع عن القيام بشيء يؤدي بالضرورة إلى الحيلولة دون حدوث هذا الشيء. فمثلاً لو امتنع الفلسطينيون عن المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 ما كان لهذا المؤتمر أن يُعقد لولا موافقة الفلسطينيين، فالفلسطينيون يملكون في هذه الحالة القوة السلبية.
اقرأ/ي أيضًا: أي حوار وطني حول الانتخابات نريد؟
لكن امتناع الفلسطينيين عن إجراء الانتخابات لا يؤدي إلى حماية القدس، فلا ضرر يمكن أن يصيب "إسرائيل" إن لم تحدث انتخاباتٌ فلسطينية، بل إن ذلك يساعد الحكومة الإسرائيلية في ترويج حججها أن الفلسطينيين منقسمون ويفتقرون لحكومة منتخبة، بينما محاولة إجراء انتخابات دون موافقتهم من شأنه أن يغير قواعد اللعبة فيها، ويخلق انطباعًا حقيقيًا أن مدينة القدس فلسطينية.
وكان بالإمكان الاستفادة من طاقة أهل القدس التي تجلت في أبهى صورها في رفض وضع كاميرات التصوير في المسجد الأقصى في العام الماضي، وتجلت للمرة الثانية هذا الأسبوع في البحث عن الطفل قيس أبو ارميلة رحمه الله، حيث وقف أهل القدس على قدم واحده بحثًا عنه، فبمثل هذا تصبح مدينة القدس أولوية باستخدام طاقتنا الإيجابية.
سيناريو ربط الانتخابات بموضوع القدس دون أن يرافق ذلك برنامجٌ ضاغطٌ على الحكومة الإسرائيلية زاد قناعة المواطن الفلسطيني أن الربط مُبرّرٌ لعدم إجرائها، ولو كان الأصل إجراء الانتخابات لرأينا تحركات فلسطينية رسمية وشعبية للضغط على الحكومة الإسرائيلية من أجل إجرائها، فلم نشهد أي خطوة ضاغطة لإجرائها، ولم يسجل أي نشاط فلسطيني لا داخل مدينة القدس ولا خارجها للضغط على الحكومة الإسرائيلية، بينما اكتفت القيادة بمطالبة الأوروبيين بإحضار موافقة إسرائيلية على الانتخابات قبل صدور مرسوم الانتخابات، وكأن الأوروبيين لن يناموا ليلهم الطويل إن لم نجري انتخابات، وليس عدم إجرائها أو محاولة إجرائها يدفعهم أكثر للاقتراب من الموقف الإسرائيلي.
أصبح الفلسطينيون متيقنين أن المماطلة في إجراء الانتخابات يعود لأسبابٍ داخلية فلسطينية وليست خارجية. في السابق كان الانقسام السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة هو المعيق الحقيقي لإجرائها، لكن بعد موافقة حماس الرسمية عليها، واستجابتها لكل الشروط التي وضعتها السلطة في رام الله أصبح الوضع الداخلي لحركة فتح هو المعيق الأساسي لإجراء الانتخابات.
الوضع الداخلي لحركة فتح هو المعيق الأساسي لإجراء الانتخابات
هناك خشيةٌ حقيقيةٌ داخل فتح أن تعصف هذه الانتخابات بالقيادة الحالية للحركة في ظل وجود تيارات قوية لا تخضع لسيطرة الحركة خاصة في قطاع غزة، وخشية من تشكل تيار آخر منافس في الضفة الغربية، إضافة إلى أن جزءًا لا يستهان به من الطبقة السياسة المتنفذة لا ترغب بإجراء الانتخابات، فمصالحها ستتضرر من إجرائها، لذا تستخدم كامل طاقتها لثني الرئيس عن إجراء الانتخابات ولإقناعه بأي أسباب تحول دون إجرائها.
أعتقد أن الظروف السياسية الحالية والمقترنة مع ما يعرف بصفقة القرن تجعل من إجراء الانتخابات أفضل وسيلة لمواجهتها، فإعلان الانتخابات من شأنه أن يحرك كل الطاقات الفلسطينية، ويثبت أن الأرض الفلسطينية واحدة، ويضع مدينة القدس في واجهة الأحداث، وسيُشكّل مدخلاً حقيقيًا لإنهاء الإنقسام.
الأهم من ذلك كله أن الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تعبر من خلالها حركة فتح برَّ الأمان، بعيدًا عن الصراع الذي يجري داخلها ويتلمسه كل فلسطيني رغم إنكاره من قبل الحركة. فتعافي الحركة ووحدتها مصلحة فلسطينية بالدرجة الأولى قبل أن يكون مصلحة للحركة ذاتها، فالحركة أقرب إلى الصاري الذي يحمل عليه شراع السفينة ويحدد اتجاه مسيرها، وإذا كسر الصاري وسقط الشراع ستضِلُّ السفينة وجهتها وستصطدم بالموج إلى أن تغرق بركابها. لذا على الحركة أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية بالخروج من أزمتها وأن تقود الجميع إلى برَّ الأمان عبر صناديق الاقتراع وليس صناديق النحاس.
لا ضير أن يصدر مرسومٌ يحدد موعد الانتخابات في الصيف القادم، وأن تستغل الحركة هذه الفترة لتصويب أوضاعها الداخلية، فلا انتخابات يمكن أن تجري دون فتح، لكنها يمكن أن تجري دون حماس مثلاً، ولا يمكن أن تبقى فتح قائمة دون انتخابات، كما لا يمكن اعتبار حالها الذي هي عليه شأنًا داخليًا لها، فهي صاري السفينة، وصاري السفينة شأن يهم كل ركابها، ومصلحتهم جميعًا أن يبقى سليمًا كي يصلوا برَّ الأمان.
اقرأ/ي أيضًا:
إجهاض الانتخابات: أي خيبة ستحل بنا؟
هل أضاعت السلطة هويتها المدنية؟