ارتفع منسوب التفاؤل بإجراء انتخابات فلسطينية تشريعيةٍ، وإن بدرجة أقل رئاسية، إلى مستوياتٍ لم نلامسها في السابق، منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة في كانون ثاني من عام 2006. وأيًا كانت دوافع تدفق الدماء في شريان الأمل بإجراء انتخابات جديدة، التي على ما يبدو أن أقواها يتمثل في تهديد الاتحاد الأوروبي السلطة الفلسطينية بوقف التمويل إذا لم تجرِ انتخابات خلال الفترة القصيرة المقبلة، إلا أن السلطة الفلسطينية بمقابل اليد التي اقترحت الانتخابات، وضعت مجموعة من العقبات باليد الأخرى، توقعت أن حركة حماس سترفض الانتخابات بسببها. وبذلك ستظهر السلطة الفلسطينية أمام المجتمع الدولي باعتبارها الساعي المحموم للانتخابات التي تعطلها حماس.
السلطة الفلسطينية بمقابل اليد التي اقترحت الانتخابات، وضعت مجموعة من العقبات باليد الأخرى، توقعت أن حركة حماس سترفض الانتخابات بسببها
لكن، للمفارقة، فاجأت حماس، التي أدركت اللعبة، السلطة بالتنازل عن مجموعة مطالب ألحّت السلطة الفلسطينية على رفضها، وهي: التنازل عن مقترح إجراء انتخابات المجلس الوطني، والتنازل عن مقترح انتخابات الرئاسة بالتوازي مع المجلس التشريعي، والتنازل عن قانون التمثيل النسبي، وأخيرًا التنازل عن اللقاء الوطني الفصائلي قبل المرسوم الرئاسي بخصوص الانتخابات. أيًا كانت دوافع حماس لاتخاذ قرار بالتنازل عن هذه المطالب، إلا أن المؤكد أن حركة حماس لا تريد أن تظهر بمظهر المعطل للانتخابات أمام الشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي التي تتأمل فتح خطوط مع كثير من أقطابه.
اقرأ/ي أيضًا: أي حوار وطني نريد حول الانتخابات؟
على أي حال، لا يزال يكتنف العملية كثيرٌ من التعقيدات التي قد يتذرع بها الطرفان لعدم إجراء الانتخابات، ولربما أبرزها إذا ما رفضت سلطات الاحتلال مشاركة الفلسطينيين في مدينة القدس المحتلة بهذه الانتخابات. وقد تبرز عقباتٌ أخرى لا يمكن تجاوزها إلا بإرادة صلبة من كلا طرفي الانقسام، تنم عن اهتمام عميق بإجراء الانتخابات وتجديد الشرعيات.
لكن، إن ذللت كافة العقبات الداخلية، ووافقت دولة الاحتلال على إجراء الانتخابات في مدينة القدس المحتلة، وجرت الانتخابات، فهل تشكل الانتخابات حلاً سحريًا لحالة الانقسام، وتوحّد الفلسطينيين من خلال قيادات وأجهزة رسمية ممثلة للشعب، في قالب عمل موحّد جامع للتحرر الوطني؟
حتى إن جرت انتخابات فهي لن تساعدنا كفلسطينيين لتجاوز أزماتنا لعدّة أسباب:
الأول: يمكن بسهولة إفراغ الانتخابات من مضمونها، وما قد تحمل من حسنات، إذا ما تحوّلت إلى مسرحية هزلية لتثبيت الوضع القائم والحفاظ على استمرارية الشرذمة الفلسطينية-الفلسطينية. وقد يجري ذلك من خلال التلاعب في الانتخابات، حتى وإن لم يكن التلاعب مباشرًا ومفضوحًا، كتزوير النتائج، وهو ما يبقى احتمالًا مفتوحًا إلا إذا توافق الطرفان على إجراء انتخابات حرّة ونزيهة تحت رقابة محلية وإقليمية ودولية صارمة، لكن قد تنطوي الانتخابات على تلاعب غير مباشر لكنه عميق إلى المدى الذي تعطب به الانتخابات وتسقط نزاهتها.
تمتلك الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة أو لحركة حماس ما يكفي من الخبرة في الضغط والترهيب والتوظيف العشائري والعائلي والابتزاز أو شراء الأصوات لدرجة تبطل نزاهة الانتخابات عمليًا. ونشهد مثل هذه الضغوط بشكل مستمر وواسع المدى في انتخابات الهيئات المحلية وانتخابات مجالس الطلبة وانتخابات النقابات وغيرها من الأطر.
تمتلك الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة أو لحركة حماس ما يكفي من الخبرة في الضغط والترهيب والتوظيف العشائري والعائلي والابتزاز أو شراء الأصوات لدرجة تبطل نزاهة الانتخابات عمليًا
ويلعب الاحتلال دورًا مكمّلًا في الضفة الغربية ومدينة القدس المحتلة في هذا الإطار، من خلال حملات الاعتقالات والتهديدات ضد كل المرشحين الذين لا ترغب بهم دولة الاحتلال، ودائمًا ما تفعل ذلك، بصرف النظر عن خلفية المرشحين الحزبية.
اقرأ/ي أيضًا: إجهاض الانتخابات.. أية خيبة ستحل بنا؟
الثاني: لن تتخلَ حماس ولا فتح عن غزة والضفة على التوالي لبعضهما إن نجح الطرف الآخر في الانتخابات، فلن تتنازل حماس لفتح عن السلطة في قطاع غزة بشكلٍ حقيقيٍ إن فازت في الانتخابات، ولن تسمح السلطة ولا دولة الاستعمار لحماس بانتزاع فرصة حكم الضفة الغربية إن فازت في الانتخابات، ولن تقبل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي بذلك، إلا إن التزمت حماس باتفاقيات منظمة التحرير مع دولة الاحتلال بما فيها من تنازلات، ولنا في انتخابات 2006 مثالًا، وهو ما لن تقبل به حركة حماس بالتأكيد.
يعود ذلك إلى الاستفراد في السلطة ورفض فكرة الشراكة وغياب الثقة المتبادلة بين الطرفين، ومراكمة مصالح فئوية، فضلًا عن اختلاف الرؤى والبرامج السياسية والأيديولوجيا التي يعتنقها كل طرف بشكل يجعل الشرخ أعمق من أن يردم بمجرد انتخابات حتى لو كانت نزيهة بالفعل.
الثالث: تتمثل مشكلتنا الجوهرية في غياب مشروع وطني يحدد قواعد اللعبة الداخلية بين القوى الفلسطينية. والانقسام الفلسطيني هو أحد أعراض غياب المشروع الوطني، ولا يمكن للانتخابات أن تحل كارثة الانقسام.
وإن ذهبنا إلى انتخابات، لن تتم بالتأكيد دون موافقة وسعي طرفي الانقسام الدؤوب لتحقيق هذا الاستحقاق، فإن يعد أداةً لتثبيت الشرعية والمناورة والمزاودة على الطرف الخاسر وإثبات تمثيل هذا الطرف على ذاك للشعب الفلسطيني، وليس بنية طي صفحة الانقسام وتجديد الشرعيات وإعادة تأطير المشروع الوطني، بما أننا لا نزال في مرحلة تحرر وطني، ونحتاج الكل الفلسطيني في إطار عمل موحد، يعالج هموم الناس اليومية من ناحية، ويعالج مسألة الاستعمار من ناحية أخرى، من خلال تمثيل حقيقي للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده ولكافة الأحزاب والفصائل في منظمة التحرير التي لا بد لإعادة صياغة المشروع الوطني التي نشأت لأجله.
كان الأجدى بالسلطة الفلسطينية وحركة حماس اتخاذ خطوات تدريجية لبناء الثقة، ومن ثم العكوف على صياغة مشروع وطني تحرري يرتكز على المشترك بين كافة الأحزاب والفصائل الفلسطينية في استراتيجيات مكافحة دولة الاستعمار الإسرائيلي، وتنحية الخلافات الأيديولوجية، والتوافق على تعزيز الجبهة الداخلية وإصلاح ما أتلفه الانقسام على الصعيد الاجتماعي والسياسي، وإعادة إحياء منظمة التحرير وإصلاحها ورد الاعتبار إليها باعتبارها ممثلة للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وتحصين الجبهة الداخلية من خلال العمل على التعليم والصحة وضمان الحريات والحقوق الأساسية والتوافق على بناء اقتصاد مقاوم.
آنذاك فقط يمكن إدارة نوع من الانتخابات وتمثيل الأحزاب الفلسطينية في السلطة دون أن يؤدي ذلك إلى مزيد من الانقسام والتشرذم والصراعات، لأن الأهداف وأطر العمل محددة، والثقة والشراكة متوفرة، والاختلاف داخل حدود المتوافق عليه من الكل الفلسطيني.
اقرأ/ي أيضًا: